بعيدا عن التأويلات والقراءات المتسرعة لجريمة نيس الإرهابية تقف فرنسا في مواجهة نتائج رابع عملية إرهابية تهز أمنها القومي مخلفة مرة أخرى ضحايا بالعشرات ومئات الأسلة الحائرة والباحثة عن أجوبة فشل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وحكومته في الرد عليها وطمأنة الفرنسيين وشركائهم الأوروبيين وأصدقائهم بمناعة وقدرة أجهزتهم على مواجهة الإرهاب والرد عليه بما يتناسب وحجم الجرائم وارتفاع منسوب التهديدات الإرهابية التي تستمر بتهديدها.
أسئلة مقلقة تطرح مرة أخرى عن فشل استخباراتي كبير وخطير يرافق أجهزة الأمن الفرنسية الداخلية والخارجية والتي لا تبدو أنها قادرة على تقدير حجم المخاطر ومتابعة الجماعات الإرهابية التي مازالت متحررة من الكثير من المراقبة الواجبة داخل فرنسا القادرة على تجنيد الإرهابيين وتسليحهم وإعدادهم لتنفيذ مخططاتهم ومنفذ عملية نيس محمد بوهلال الذي عرف عنه فقط انه منحرف وعنيف لم تملك الأجهزة الفرنسية عنه أية معلومات عن تحوله للتطرف وارتباطه بالمجموعات الإرهابية.
فرنسا التي تخوض حروباً مفتوحة ضد الإرهاب من مالي إلى ليبيا والصومال مرورا باليمن والعراق وسوريا وهذا الاستنزاف العسكري والأمني شتت قدرات فرنسا على مواجهة هذه الساحات الغارقة في يد المجموعات المتطرفة والتي زاد من أزماتها السياسات المتهورة للحكومات المتعاقبة منذ بداية ما سمي "بالربيع العربي" وتمددت كوارثه دون توقف لليوم، كل هذه التحديات الخطيرة التي تواجه فرنسا قابلها تجاهل أوروبي لحربها ضد الإرهاب وكأنها تركت لوحدها تواجه مصيرا أسود بينما يكتفي البقية ببيانات التنديد والتعاطف واستنكار جرائم الإرهابيين.
منذ الهجوم الإرهابي على مقر جريدة "شارلي أيبدو" والإرهاب يستهدف فرنسا تباعاً بينما تنأى العواصم الأوروبية بنفسها عن هذا الخطر باستثناء بروكسل التي عوقبت من الجماعات الإرهابية لمساعدتها فرنسا بكشف المجموعة التي شاركت في هجمات باريس نهاية السنة الماضية، التملص من المشاركة الفاعلة في مواجهة التمدد الإرهابي في أوروبا صار واضحاَ رغم كل الاتفاقات والمعاهدات وما يحكى عن التنسيق الأمني بين دول أوروبا لا يبدو أنه يخرج عن نطاق العلاقات العامة البعيدة عن الواقع المعاش في أوروبا.
وأمام التحديات والمخاطر المرتفعة التي تواجه فرنسا تبدو الصورة هادئة في باقي دول أوروبا التي لم تستطع إيقاف أو تفكيك خلايا إرهابية أو مصادرة أسلحة أو تجميد أموال تنتقل بكل سهولة لتمويل الإرهاب كما أن مئات الإرهابيين الذين خرجوا من كل الدول الأوروبية والتحقوا بالمجموعات الإرهابية في سوريا والعراق لا تبدو أوروبا مهتمة بمتابعتهم ومواجهة أخطار عودتهم وما تشكله من تهديد لعمق لآمن القارة العجوز.
بعض العواصم الأوروبية تجاوزت سياسة غض الطرف عن الجماعات الإرهابية ونشاطها وسارت باتجاه التفاوض عن بعد معها لحماية مصالحها ومثال ما يجري لحماية المنشات النفطية في ليبيا يعطي صورة عن كيف يتم التضحية بالأمن الأوروبي مقابل المصالح الخاصة وهذا سيعطي الجماعات الإرهابية القدرة على فرض شروطها المتصاعدة في المراحل المقبلة مما يضع كل دول القارة العجوز تحت رحمة الإرهاب.
فرنسا التي تقف وحيدة في مواجهة التهديدات الإرهابية المستمرة ضدها مازالت تتهرب من مواجهة استحقاقات الأخطاء السياسية القاتلة التي ارتكبتها منذ تورطها في ليبيا ثم سوريا والعراق ودعمها للمجموعات التي تحولت من صناع للربيع العربي إلى صناع للدمار والإرهاب في المنطقة وانعكاسات هذه الحماقات وارتداداتها على فرنسا التي تورط المئات من شبابها مع الجماعات الإرهابية، وهذه الاستحقاقات إن لم يتم تحميل مسؤولياتها لمن تسبب بتوريطها سياسيا وعسكريا في هذه المناطق وكشف حقائق ذلك سيبقى عبء تتحمله كل مدة في صراعها المكشوف مع الجماعات الإرهابية.