: آخر تحديث

تقسيم الناس إلى درجات... نفيسة وخسيسة!

0
0
0

محمد ناصر العطوان

عزيزي القارئ! هذا المقال حساس جداً، وللكبار فقط، لذلك وجب التنويه، وأهلا بك في قسم تفكيك الطبقية.

هل سوف تصدقني إذا أخبرتك أن الماضي ليس جميلاً دائماً، وأنك لو عشت في المدينة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد فترة من الخلفاء الراشدين... فمن الممكن أن تسقط في «الخسة» وتصبح محتقراً اجتماعياً بسبب مهنتك!

تخيل معي... لو سألك أحدهم في العصر العباسي: «ما وظيفتك؟» وكان ردك هو «دباغ» أو «حلاق»... فسينظر لك بخسة! لأن المجتمع كان يقسم مهن الناس إلى «نفيس» و«خسيس»! وأنت ممكن تكون من «الخسيسين» من دون أن تدري!

يحدثنا الكاتب خالد زيادة، في كتابه «الخسيس والنفيس» -الصادر عن دار رياض الريس- عن معايير التقسيم، وكيف كانت المدينة الإسلامية عبر فقهائها ومفكريها تصنف الناس؟ نظرية «النفيس والخسيس» حيث النفيس هم التجار، الفقهاء، ورجال الدولة، أما الخسيس فهم معظم أصحاب المهن الأخرى باستثناء الجند والعسكر! (حتى لو كانوا أغنياء)!

المفارقة العجيبة أن التقسيم هنا ليس له علاقة بحلالية الرزق من حرمته، بل هو تقسيمة اجتماعية تخلط الدم باللحم بالجلد بالشعر بالخشب دون أي منطق!

ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أخبرنا أن الناس سواسية كأسنان المشط، إلا أن النظرة الاجتماعية كانت لها وجهة نظر أخرى... فالقَصَّاب (بياع اللحم) والنخَّاس (بياع الناس) كلاهما من ذوي المهن المحتقرة، رغم غنى أصحابها، الحطَّابون (جامعو الأخشاب) والخطَّابون (جامعو رأسين في الحلال)، وكذلك التراسون (حراس) والجمالون (أصحاب الجمال) والحجَّامون، والدبَّاغون (دابغو الجلود) والزبالون (جامعو القمامة)... وسقاة الماء، والسمّاكون، والحمالون وبائعو الدقيق... وكلها مهن كانت تصنف في مراتب اجتماعية متدنية... والغريب في الموضوع أنها حلال وليست حراماً، وبعض هذه المهن مربح جداً! ولكن النظرة الاجتماعية محتقرة للمهنة ولأصحابها!

السؤال الآن هو: لماذا هذه المهن تحديداً؟ وما منطق الطبقية الاجتماعية في المدينة الإسلامية؟

قسموا المهن إلى مهن تتعامل مع «النجاسة» مثل الدباغين الذين يتعاملون مع الجلود الميتة، والزبالين حيث التعامل مع القمامة، والحجَّامين والتعامل مع الدم، ومهن مزعجة مثل الحطابين والخطابين وسقاة الماء وبائعي الدقيق... وهناك مهن من فئة «الخسيس المركب» مثل كتبة الرسائل... تخيل عزيزي القارئ! مهنة الرجل الذي كان يكتب للناس رسائلهم بسبب انتشار الأمية كانت تعتبر مهنة دنيا!

لاحظ أيها القارئ الكريم! أننا لا نتحدث عن مهن لهو ومجون مثل القرداتية (الذين يلاعب القرود) أو الطوافين على الدور الملبسين على الناس بالأباطيل والفلك والسحر، ولا أصحاب الحانات والقمارين والمنجمين والمتسولين المحترفين أو المشعِّبين الذين يشوهون الأطفال من أجل أن يعملوا شحاذين!... بل نتحدث عن مهن لا تقوم الحضارة إلا بفنونها، ورغم ذلك تم وسمهم اجتماعياً واحتقارهم... إنها مفارقة إنسانية لطالما استوقفت العقلاء، فالإسلام يساوي بين الناس... لكن التطبيق الاجتماعي للمدينة له رأي آخر!

أما الفئات النفيسة، وهي «الدرجة الأولى» في المجتمع، فهم رجال السلطة، الخلفاء، الولاة... وبعدهم الفقهاء، القضاة، والأئمة، ومكانتهم محفوظة لأنهم «ورثة الأنبياء»... ويوازيهم في الأهمية -إذا لم يكونوا أهم أحياناً- كبار التجار أصحاب السلع النادرة.

ولكن ما أسباب هذه الطبقية؟ هل لها أسباب دينية مثل تفسير خاطئ لمفهوم «الطهارة» وفهم متحيز لبعض النصوص؟ أم أسباب اقتصادية مثل احتقار العمل اليدوي وتقدير العمل الفكري والتجاري؟ أم أسباب اجتماعية مثل الرغبة في التميز ونظرة دونية للخدمات الأساسية؟

في الواقع عزيزي القارئ الهمام! يا من تشكو الزحام وسرقة اللئام! الطبقية مرض قديم، ولا أعتقد أنه وُجِد مجتمع لم يعان من التمييز والتهميش منذ بابل والفراعنة مروراً باليونان والرومان وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية... ولكن الأهم هو أن نعي ونعترف أن هناك قصوراً في الإدراك، وأن قيمة العمل عليه أن يخرج خارج إطار النفيس والخسيس ليدخل في إطار الشريف وغير الشريف، الحلال أم الحرام، فكل عمل شريف طالما يتقن ويُحسن للناس فهو رفعة لصاحبه... فيا رب يخرج منا جيل يقدر كل الأعمال... ويحترم كل البشر دون أن ينظر لمهنتهم على أنها مقياس لقيمتهم! فالتطور الإنساني والمجتمعات تكون في أحسن صورها عندما تتخلص من التمييز وتجعل الكرامة الإنسانية للجميع... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد