وصل حواري مع معلّمة الأدب العربي في تلك المدرسة في الجنوب اللبناني إلى نقطة مثيرة للاهتمام، حين تطرّقتْ إلى التجربة التي عاشتها خلال حرب 2024 وما بعدها، هي القادمة من بيروت إلى تلك الأنحاء. وبينما كانت تتكلّم، كنت أفكّر في أهمية ما فرضه علم الأنثروبولوجيا الثقافية الحديث (علم المجتمعات والحضارات المقارن)، منذ مالينوسكي في عشرينات القرن الماضي، من وجوب الإقامة داخل المجتمع المراد درسه، والعيش فيه كأحد أفراده، كي تتوافر للباحث «النظرة المزدوجة»، من الداخل ومن الخارج معاً. شكّلت تلك القاعدة قطيعة منهجية عميقة مع روَّاد علم الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر، أمثال سبينسر وتايلور ومورغن، الذين كانوا يدرسون المجتمعات من بعد، عبر المعلومات المتوافرة عنها في كتب المؤرّخين والرحّالة والمبشّرين. ولو سمع مالينوسكي شهادة معلّمة الأدب العربي عن تجربة الحرب التي عاشتها، لأعجب مثلي بذكائها، وبدقّة الملاحظة لديها، ولفتحت له آفاقاً واسعة لفهم محنة هذا المجتمع.
كانت القرية الجنوبية بعيدة عن الحدود، ولم تكن تضمّ مراكز عسكرية لـ«حزب الله». لذلك لم تصب بدمار كبير ولم تشهد تهجيراً يُذكَر، خلافاً لما حلّ بعشرات القرى الجنوبية. اقتصر قصف المسيّرات العدوّة على استهداف ثلاثة أشخاص فيها، هم رجل دين ومختار ومدير المدرسة، الذين قضوا مع عائلاتهم. بعد ذلك لم تعد تشهد القرية أعمال عنف تُذكَر. فقد ابتعد شبح الحرب عنها.
مع ذلك، تقول المعلّمة، كان لمقتل الرجال الثلاثة تأثير مدمّر على مجتمع القرية. فقد عايشتْ، ضمن عملها، الخراب الذي حلّ في المدرسة بعد مقتل مديرها، ذلك المدير بالذات، مع أن السلطة التربوية الرسمية عيّنت بسرعة مديراً آخر مكانه. تغيّر سلوك التلامذة بصورة بالغة نحو الأسوأ. كذلك سلوك أهاليهم. كأن التلامذة وأهلهم أضحوا فجأة أشخاصاً آخرين، بلا ضابط ولا رادع. ظهر بوضوح جليّ كم كان دور المدير القتيل حاسماً في تنظيم مجتمع التلامذة، ومن ورائهم مجتمع أهلهم، وفي ضبط كل أولئك الناس وتوجيههم. ولا شك في أن غياب رجل الدين ومختار القرية فاقم كثيراً هذا الوضع المتردّي. وما زاد من معاناة الناس أن الكثير منهم فقد الأمان المعيشي الذي كان يوفّره له مصرف الحزب الخاص، الذي كان يمنحهم القروض المالية لقاء إيداعه ما لديهم من مصاغ ذهبي. وهم لم يعودوا يعرفون شيئاً لا عن قروضهم ولا عن ذهبهم. وقد توقف، بفعل ذلك، معظم مشاريعهم الحيوية في منتصف الطريق. وترى المعلّمة أنه من الصعب تماماً على مجتمع القرية النهوض من كبوته ولملمة ذاته من جديد.
كانت معلّمة الأدب العربي تتحدّث بمحبة عن مجتمع تلك القرية وتأسف لما آلت إليه أوضاعها. توقّفت في كلامها عند هذا الحدّ، فلم تضف شيئاً، ولم تصل إلى استنتاجات، ولم تصدر أحكاماً في أيّ اتجاه.
لكن المستمع إلى شهادة المعلّمة، مهما كان محايداً وموضوعياً، لا بدّ أن يطرح على نفسه التساؤلات الآتية:
- إذا كان مقتل ثلاثة أشخاص أساسيين في هذه القرية البعيدة عن الحدود، التي لم تصب بدمار كبير، قد ترك هذه الآثار المأسوية على حياة الناس فيها، فما الذي حلّ إذن بحياة البشر في عشرات القرى في الجنوب اللبناني، التي فقدت مئات بل آلاف الأشخاص الأساسيين فيها، والتي تمّ تدميرها بشكل جزئي أو كلّي؟ وأبعد من ذلك، ما الذي حصل في حياة البشر في قطاع غزة؟
- يبدو جليّاً كيف، خلال أربعين عاماً من التحرّك المنهجي الدؤوب، استطاع «حزب الله» التغلغل العميق في كل حنايا المجتمعات التي يعمل فيها، بحيث لم يضبط فقط بفعالية بالغة خياراتها العقائدية الدينية، وتوجهاتها السياسية والآيديولوجية، ومنحاها العسكري «الجهادي»، بل أضحى هو العمود الفقري لبنيتها الأهلية ولمجتمعها المدني، في كافة أوجه حياتها، ما غيّب تماماً عن هذه المجتمعات دولة «لبنان الكبير» ومؤسساتها.
- إزاء هذا الواقع الراسخ، الذي بات مرتبكاً ومهتزّاً، هل سيكون بإمكان مؤسسات «لبنان الكبير»، التي تعاني من الهشاشة هي أيضاً، الحلول التدريجي محلّ مؤسسات الحزب، خصوصاً إذا وافق في نهاية المطاف على تسليم سلاحه للدولة والتحول حزباً سياسياً، أم أن خيارات ومسارات أخرى تنتظر هذه المجتمعات؟
والمهم في كل ذلك معاناة البشر، ومآسي الناس العاديين، وهم وقود التحوّلات وضحاياها الحقيقيون المنسيون، في أجسادهم ونفوسهم.