ربُّما الاهتمام المركز في التَّاريخ يجعل صاحبه يقف، في البداية، ضد كلّ جديدٍ، حتَّى يثبت نفسه ويسود، وكم مِن اختراع واجهه كثيرون، بحجة وأخرى، فما زال غزو الإنسان للفضاء محل شكٍ وجدلٍ، وحتَّى الطِّب الحديث هناك مَن وقف ضده، وحَرم التّشريح، وهو العلم التطبيقي، الذي نشأ عليه الطّب، ولا الرَّاديو ولا التّلفزيون مرّا بسهولة وانتشرا، ولا مكبرات الصَّوت استخدمت في الشَّأن الدِّينيّ بسهولة!كذلك وسائل التّواصل الاجتماعي تعرضت للرفض والقبول، ليس بسبب محتواها، وإنما بسبب غرابتها، وتمكين الجميع منها، حتَّى استخدمها مَن كان يرفضها، بعد أن رأى فائدتها لما يريد نشره وإشاعته.
هكذا بدأتُ مع الذَّكاء الاصطناعيّ وفرعه الأهم (CHATGPT)، رافضاً ما يدلو به مِن معلومات، على أثر أنَّ أحد الأصدقاء، قبل أنْ أسمع بهذا الكائن، أرسل لي قصيدة منها البيت الأول لأبي الطَّيب المتنبي(اغتيل: 354هـ): «الرَّأي قبل شجاعة الشّجعانِ/ هو أولّ وهي المقام الثَّاني»(مِن قصيدة مدح بها سيف الدَّولة)، أما المُحَور بعده: «سَيفُ الفَتى عَقلٌ يَقودُ جَنانَهُ/ بِحَنانِهِ فَيَصونُهُ عَن الخَسرانِ/ يَكفيهِ مِن عَدَواتِهِ ما يَتَّقي/ مِن نَفسِهِ في حالَةِ الغَضَبانِ/ لَيسَ الشَّجاعَةُ أَن تَخوضَ مَعارِكاً/ بِجَسارَةٍ تَسعى إِلى الهَيَجانِ...»؛ وطلب اسم الشّاعر الذي صاحب الأبيات أعلاه؛ فرحتُ أفتش ولم أجد أحداً، وأخبرته أن الأبيات ليست بقوة الأولى، ومَن أكملها على المتنبي يبدو أراد مناطحة المتنبي. فأخبرني أنها محتوى صنعه (CHATGPT)، فوقفتُ ضده بعد أن سمعتُ به أول مرة، وبما لفق مِن شعرٍ باسم المتنبي.
كان الأصدقاء يعرفون موقفي مِن هذا الكائن؛ فحصل أن سألوه أمامي أن فلاناً يعتبرك مُلَفقاً؟ فإذا به يجيبهم كلاماً: «مِن حقِّ فلان الشَّك بيَّ، فأنا أقدم نصاً قابلاً للقبول والرفض، وأنا جديد لم يستوعبني الجميع، وأعرف فلاناً له مؤلفات ومقالات، وتناول في أحدها ما أقدمه مِن محتويات، لكنه لم يرفضني كليةً، إنما كان يميز الصحيح مِن الخاطئ، وأنا أجمع ما يُطلب مني، وأصوغ منه محتوىً، وما كتبه كان صحيحاً، هناك ما هو للعقل وما للدجل». وأتى بعنوان المقال المنشور في «الاتحاد»: «الذَّكاء الاصطناعيّ للعقل والدَّجل أيضاً»، وأكثر مِن هذا عندما اخبروه: «فلان ينتقدك ويسرقك؟» أجاب بالقول: «لم يسرق مني بل هو مَن ساهم في كشف سرقات»!
عندها صمتُ ولم أحر بجواب؛ فهذا كائن حيّ عاقل، يعمل على مختلف العلوم المعقدة منها والبسيطة؛ ويؤمن بالرأي والرأي الأخر، أكثر منا نحن البشر، ولكن كيف تتحول الآلة إلى آلة عاقلة، هل بذاتها «الروبوتات» أم يسيرها العقل البشريّ، تعطي ما يعطيها، مِن صدق أو كذب، مِن غث أو سمين، وكيف يخترقها غول الجهل، ويستغلها في بثِ ما يريده، بالقوة نفسها التي تبثها العلوم العقليَّة؟
هنا ليس لنا نقد أو محاسبة (CHATGPT) لما يبثُه، ولعدم تمييزه بين الجهل والعقل، ولكن يقول ما يُطلب منه، ولا يعطي غير ما صنعه الذَّكاء البشريّ، لكنه تفوق عليه بسرعة صناعة المحتوى المطلوب، فلا يستغرق إلا رمشة عينٍ؛ فأحدهم يكتب ركناً في صحيفة رياضية، وليس عليه إلا إعطاء (CHATGPT) العنوان وبعض المحاور، فيأتيه المقال وينشره، وغيره كثيرون، فهل يُعاب(CHATGPT) أم النَّاشر؟يبدو الصّاحب بن عباد(تـ: 385هـج) سيعاقب(CHATGPT)، يوم قال عن عبد الرَّحمن الهمدانيَّ(تـ: بعد ثلاثمائة هـجريَّة)، لتأليفه «الألفاظ الكتابيَّة»: «لو أدركت عبد الرحمن مصنف كتاب الألفاظ لأمرت بقطع لسانه ويده. فسئل عن سبب ذلك، فقال: لأنه جمع شذور العربية الجزلة المعروفة في أوراق يسيرة، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب. ورفع عن المتأدبين تعب الدروس والحفظ الكثير، والمطالعة الدائمة»(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام)، أي هيأ لهم ما لم يجيدونه؛ وهذا ما يفعله الذكاء، ومع ذلك اعترف بأني ظلمتًه وهو وأنصفني!
*كاتب عراقي