: آخر تحديث

كُتُبنا.. أكبادنا تمشي على الأرض

3
2
3

لا أحدَ يدرك غلاء الأبناء أكثر من الآباء، فالابن لأبيه هو قُرَّة عينه، أي مصدر سعادته وسروره واطمئنانه.. وهو فلذة كبده، أي قطعة من كبده، يتألَّم لألمه، ويسوؤه ما يسوؤه، ولا يقبل أنْ يتطاول عليه أحدٌ بفريةٍ أو زيفٍ أو بهتانٍ.. وقد عبَّر الشَّاعر «حطَّان بن المعلى» عن ذلك أبلغ تعبير حين قال:

إِنَّمَا أَولادُنَا بَيْنَنَا

أَكبَادُنَا تَمشِي عَلَى الأَرْضِ

لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعضِهم

لامْتَنعَتْ عَيْنِي مِنَ الغَمْضِ

وكما أنَّه لا يليقُ بإنسانٍ شهمٍ نبيلٍ أنْ يُسيءَ إلى ابنٍ في حضرة أبيه، فإنَّ الشَّهم النبيل ذاته لا يليقُ به أنْ يُسيءَ إلى كتابٍ في حضرة كاتبهِ، فشعور الكاتب تجاه كتبه، لا يختلف عن شعور الأب تجاه فلذات كبده، فالكتب ليست مجرَّد أوراقٍ مطبوعة ومصفوفة، بل هي بمثابة أبناء لكاتبها، أنجبهم بمعاناةٍ من رحم فكرهِ وتأمُّلهِ وتجاربهِ، وربَّاهم بالسهر المضني والبحث الشَّاق.. فحين يؤلِّف الكاتبُ عملًا أدبيًّا، أو علميًّا، فإنَّه لا يدوِّن كلماتٍ فحسبْ، بل يضع شيئًا من روحه وذاته في كلِّ سطر يكتبه.

ولا خلاف بأنَّه لكي تتحقَّق أقصى درجات الفائدة من ذلك العمل، فإنَّه يكون بحاجةٍ إلى نقدٍ موضوعيٍّ منصفٍ يقوم على قراءةٍ واعيةٍ وحجَّةٍ متَّزنةٍ، ونيَّةٍ طاهرةٍ صادقةٍ تسعى إلى إثراء المعرفة، لا الانتقاص منها، فالنَّقد الأمين يرفع دومًا من شأن الكتاب، حتَّى عندما يختلف معه؛ لأنَّه يقوم على المعرفة، والاحترام، وحُسن النَّوايا.

لقد أصبح من الضروريِّ أنْ نعيد الاعتبار لقيمة احترام المثقَّف وكتبهِ، ليس لأنَّ الكتاب فوق النَّقد، بل لأنَّ النقد نفسه فعلٌ نبيلٌ وأمانةٌ ونزاهةٌ؛ تقوم على نيَّة مخلصة للفهم والتطوير، لا الإيذاء والاستعلاء، وعلى الرغبة في البناء والتحسين، وليس الهدم والتَّشويه.. والثقافة لا تزدهر إلَّا حين يكون الحوار والاختلاف فيها راقيًا، ويتَّسم بكونه علامةَ وعيٍ لا أداةً للتجريحِ وتصفية الحسابات.

إنَّ الكتب ليست سلعةً عابرةً في سوق الأفكار، بل هي أثرٌ يبقى بعد أنْ يرحل أصحابها.. وكلُّ كتاب، حتَّى وإنْ لم نتَّفق معه، هو -بشكلٍ أو آخرَ- وسيلةٌ لتنمية العقول والمعارف، وتطوير المهارات، وتعزيز الوعي، ولَبِنة في بناء رفعة الوطن وتقدُّمه، أو التصدِّي بالكلمة لما يواجهه من تحدِّيات مختلفة.. وهو بكلِّ ذلك يستحقُّ أنْ يُقرأ بفهمٍ وإنصافٍ قبل أنْ يُحكم عليه ويُدان.

خلاصة القول، كما نحمي «أبناء صُلبنا» من أذى المؤذين، يجدر بنا أنْ نحمي «أبناء عقولنا» من إساءات المسيئين، ومدمني إطلاق الأحكام الجائرة، ومن كل مَن يسعى لتثبيط الفكر، وإعاقة التغيير، ومقاومة الأفكار الوليدة.. فالكلمة التي تُقال في حق كتاب، ستبقى شاهدًا إمَّا على وعينا، أو على جهلنا، وإمَّا على رقيِّنَا أو على استخفافنا بالعلم والثقافة والمعرفة.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد