: آخر تحديث

حين نصنع تجربة لا تُنسى للسائح الأجنبي

3
3
2

منيرة أحمد الغامدي

لا نحب المدن فقط لأنها جميلة بل لأننا كنا في مزاجٍ يسمح لنا أن نراها كذلك، ونحبها لأنها احتضنتنا في لحظة عطش للدهشة فأروتنا بمقهى صغير أو ضوءٍ مائلٍ على الرصيف، أو رائحة خبزٍ خرج لتوه من التنور.

نحبها لأنها - ببساطة - شعرت بنا كما تمنينا ورغبنا، ولهذا لا يعود السائح إلى مدينة فقط لأن معالمها فاخرة أو فنادقها فخمة، بل لأنه ترك فيها جزءًا من نفسه وأخذ منها ما يُرمم روحه.

في زمن تتشابه فيه المطارات والفنادق ومراكز التسوق بات التحدي الأكبر للدول والمجتمعات ألا تُبهِر الزائر فحسب بل أن تُشعره بأنه لم يكن عابرًا بل ضيفًا له مكانه في القلب، فكيف نصنع إذًا تجربة مميزة ولا تُنسى للسائح الأجنبي الذي يأتي إلى بلادنا خاصة في السعودية حيث نعيد رسم ملامح السياحة بثقة ورؤية تتجاوز الترفيه المعتاد بالعودة إلى جوهر المكان والى الإنسان والقصّة والدهشة.

أنسنة التجربة مهمة فالسائح لا يبحث عن المعلومات بقدر ما يبحث عن شعور أن يجد بائعًا كبيرًا في السن يروي له كيف كانت الحياة قبل النفط أو أن تشاركه امرأة ريفية طبقًا شعبيًا تحكي له قصة الجدّة التي ورثته عنها، هذه اللحظات هي ما يجعله ينسى عدسة الكاميرا ويُخرج دفتر الملاحظات لأن ما يراه لا يُشترى ولا يُعاد تمثيله.

استدعاء الحواس الخمس جوهري فالمدن تُعاش عبر الرائحة والطعم والملمس وتجربة السائح لا تكتمل ما لم يُمسك رغيف خبز حارًّا بيده أو يسمع صوت دفٍّ في سهرة محلية أو يشمّ رائحة الهيل في زقاقٍ قديم لا يكفي أن نُعرّفه على الأكلات بل يجب أن نجعله يطهوها معنا، ولا يكفي أن يرى الفلكلور بل عليه أن يرقصه بأقدامه. مهم منح حرية الاكتشاف فلا نركز أن يكون برنامج السائح في الجولات المنظّمة فقط بل نتيح له أن يتيه شعبي ويحادث طفلًا عن حلمه في أن يصبح طيارًا، فمثل هذه الصدف الصغيرة هي من تصنع الحنين وتستحث العودة للمكان.

حين نسافر يحدث كثيرًا أن تكون التجربة الأقوى ليست في المدن الكبرى التي يُروّج لها بل في تفاصيل عابرة لم تكن ضمن الخطة، فحين يمر قطار بين دولتين أوروبيتين وقد لمحت من نافذته جزءًا من قرية مجهولة أو قطيع أبقار يستظل تحت شجرة على تلّ أو سيدة تمشي وحدها في طريق ترابي بصمت مطمئن، فإن هذا المشهد قد يُحفر في ذاكرتك أكثر من متحف زُرته أو ساحة ازدحمت بالزوار.

هناك شيء صادق في البساطة غير المعروضة للبيع وشيء لا يقاطعك ليُبهرك بل يمرّ بجوارك دون أن ينتبه فتتعلّق بهذه اللحظات وهي ما نبحث عنه حين نسافر دون أن ندري.

جوهري بناء علاقة مستمرة ما بعد المغادرة فلا يجب ان تنتهي التجربة حين يغادر السائح المطار، بل يمكن للمنصات الذكية أن تُبقي التواصل حيًا من رسائل شكر بلغته وصور تذكارية أُرسلت لاحقًا أو حتى دعوة لمشاركة رأيه في تطوير المواقع التي زارها، فحين يشعر أن رأيه مهم وأنه لم يُنسَ تتحوّل الزيارة إلى علاقة.

مهم تعدد الطبقات الزمنية فعلى المدن الذكية أن تمنح الزائر أكثر من وجه، وجه الماضي ووجه الحاضر ووجه ما يُخطط له في المستقبل، فحين يمشي السائح في جدة التاريخية ثم يحضر عرضًا ضوئيًا تفاعليًا في البوليفارد بالرياض ثم يرى مدينة ذا لاين تُبنى أمامه في نيوم فهو لا يعيش مجرد سياحة بل ينخرط في قصة وطنٍ يُعيد كتابة مستقبله بشجاعة. مدهشة هي المفارقة الجميلة حيث تتنفس البلاد بأنفاسٍ متعددة وكلها من روحها وكل مدينة هنا تحمل نكهةً خاصة وكل لهجة تحكي تاريخًا يجب أن يُحتفى به.

حين يكون التركيز على القيم لا فقط المعالم يشعر الزائر أن مجتمعنا يؤمن بالكرم ويقدّر الضيف ويحترم الكبار ويصغي بتواضع فهو يُحمّل تجربته بقيمٍ إنسانية تعنيه في بلده أيضًا. مثل هذه القيم قد تكون هي الجسر الحقيقي الذي يربط الشعوب.

وفي إطار رؤية السعودية 2030 لم تُختزل السياحة إلى كونها قطاعًا اقتصاديًا مستهدفًا بالأرقام فحسب بل جرى التعامل معها كوسيلة ناعمة لصناعة صورة الذات السعودية كما تريد أن تُرى مضيافة ومتعددة ومتجذرة وعصرية والهدف ليس فقط استقبال ملايين السياح بل أن يعود كل واحد منهم بحكاية يرويها وأن يشعر أن السعودية ليست محطة بل تجربة وجودية وأنها بلد يعرف إلى أين يسير ويأخذ ضيوفه معه بثقة.

ربما لا نتذكر المدن كلها ولا المعالم كلها لكننا لا ننسى تلك اللحظة التي شعرنا فيها أننا لسنا غرباء، وأن مدينةً ما في زاوية غير مخططة من العالم شعرت بنا فتذكّرناها؛ لأننا كنّا نحن هناك.

السائح الذي يغادر وهو يشعر بأن تجربته لم تكن مبرمجة بالكامل بل مشاركة حقيقية هو من يعود ويكتب ويحدث أصدقاءه، ففي النهاية ليست المدن التي نراها بأعيننا هي التي تُحب بل تلك التي تسكننا دون أن تستأذن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد