لا ينام الخائن كما ينام البشر، ينام كما تنام الفكرة حين تُخنق، وكما ينام البحر حين يُحبس في زجاجة، عيناه مغمضتان، لكن وعيه متيقّظ على شكل خوفٍ خافت، كجرسٍ صدئٍ لا يرنّ إلا في الداخل.
الخيانة ليست فعلًا لحظيًا، بل حالة زمنية. تبدأ بفكرة صغيرة: لن يلاحظ أحد، ثم تكبر حتى تصير فلسفة حياة. الخائن لا يستيقظ ذات صباح ليخون، بل يوقّع عقدًا صامتًا مع نفسه، بندًا بعد بند، حتى يتعوّد العيش بلا ضمير كما يتعوّد الجسد على العرج. ومنذ تلك اللحظة، يتعلّم فنّ النوم بنصف قلب، ونصف ذاكرة، ونصف شجاعة.
الخائن لا ينام على وسادة، بل على مبرّرات. يضع رأسه فوق جملة جاهزة: الظروف أقوى، المرحلة معقّدة، الجميع يفعل ذلك. هذه العبارات ليست كلمات، بل مخدّرات خفيفة المفعول، تُسكِت السؤال الأخطر: ماذا لو كنتُ أنا الخطأ؟
ولهذا، حين ينام، لا يحلم. لأن الأحلام لا تزور من خان الوطن قبل أن يخون الأرض.
في بلادٍ أنهكتها الرياح، حيث تتشقّق الخرائط كما تتشقّق الأرواح، يصبح النوم اختبارًا أخلاقيًا. في أرضٍ كاليمن السعيد، حيث تعلّمت الجبال أن تحفظ الأسرار، لا ينام الخائن إلا وهو يدير ظهره للجبل. وفي السودان، حيث النيل يعرف أسماء الذين باعوا ضفافه، لا يغمض الجفن إلا لمن أقنع نفسه أن الماء ينسى. وفي الصومال، حيث الذاكرة أطول من الحروب، ينام الخائن محاطًا بضجيجٍ داخلي لا يسمعه أحد سواه.
الخائن لا يخاف النوم، هو يخاف الاستيقاظ. يخاف تلك اللحظة التي ينظر فيها إلى المرآة فلا يجد سوى نسخة باهتة مما كان يمكن أن يكونه. لذلك يحيط نفسه بالضجيج: سلطة، مال، شعارات، حراس، كاميرات. كل هذا ليس قوة، بل ستار كثيف يمنع الحقيقة من الدخول. فالحقيقة، حين تدخل، لا تصرخ، تهمس. وهم لا يحتملون الهمس.
في المقابل، هناك من ينام قليلًا، لكنه ينام بعمق. أولئك الذين خسروا الكثير ولم يساوموا. الذين خذلتهم الجغرافيا ولم يخونوا المعنى. هؤلاء لا يملكون أسرّة فاخرة، لكنهم يملكون شيئًا أثقل من الذهب: راحة المواجهة. هم يعرفون أن الخسارة التي تُدفع ثمنًا للصدق أخف من الربح الملوّث بالخيانة.
الخيانة ليست أن تختار جانبًا، بل أن تختار نفسك على حساب كل ما يمنحك معنى. هي أن تختصر الوطن في صفقة، والتاريخ في مصلحة، والإنسان في رقم. لذلك لا يُقاس الخائن بما يملكه، بل بما فقده ولم يشعر. فقد القدرة على الخجل، وعلى الغضب النبيل، وعلى الوقوف وحيدًا حين يجب الوقوف.
وحين ينام الخونة أخيرًا، ينامون نومًا بلا أحلام، لأن الأحلام تحتاج إلى شجاعة، والشجاعة لا تنمو في أرضٍ باعت ضميرها. ينامون كأنهم نجوا، لكن الحقيقة أنهم فقط تأخّروا عن الحساب. فالتاريخ لا ينسى، والليل، مهما طال، لا يحمي أحدًا من الفجر.
وفي مواجهة أعداء الاستقرار، أولئك المرتزقة والانقلابيين وباعة الأوطان، لا بد من القول إنهم ليسوا سوى ظلال عابرة في تاريخٍ لا يعترف إلا بالثابتين. هم أدوات تُستَخدم ثم تُرمى، باعوا أوطانهم بثمنٍ بخس، فخسروا الأرض والذاكرة معًا. لا يحملون قضية، ولا يعرفون معنى الانتماء، يعيشون على فوضى يصنعونها ثم يفرّون منها. في اليمن والسودان والصومال، سيبقى الوطن أكبر منهم، وستبقى الشعوب أطول نفسًا من خيانتهم. فالتاريخ لا يكتب أسماء السماسرة، بل يلعنهم بصمتٍ طويل لا يمحوه الزمن.


