حضرتُ محاضرةً أعقبتها ندوة نقاشية، على مسرح «مكتبة الملك فهد الوطنية» بالعاصمة السعودية، الرياض، للكاتب و«المتأمّل» اللبناني حازم صاغية قبل أيام.
أقام حازم تأمّلاته على تتبّع نزعة الرومنطيقية، كما وسمها، مُذ نشأتها في رحمها الأوروبي، الألماني تحديداً، حتى استقبال العرب والمسلمين لها، قبل وبعد، الحرب العالمية الأولى، بقليل.
بخلاصة كثيفة، كانت النزعة نحو تمجيد الطبيعة و«التوحّش النبيل» ردّاً من النخبة الألمانية العالِمة، بسبب أنَّ «التنوير» الجديد أتى من العدو الفرنسي، وبسبب تخلّف ألمانيا عن تكوين أمّة وطنية متَّحدة على غرار بريطانيا وفرنسا، وغير ذلك من الأسباب، مع التذكير بأنَّ هذه النزعة الرومنطيقية التي تجاوزت الفنون للفكر السياسي والفلسفي، لم تقتصر على نخبة ألمانيا، فجان جاك روسّو الفرنسي من رموز هذه النزعة.
كيف ظهرت هذه النزعة لدى العرب؟
يقول حازم شارحاً كيف استقبل العرب موجة حداثية غربية تجسّدت في الهيئة الاستعمارية الحديثة التي دهمت ديارهم: «وجد أجدادنا أنفسهم يواجهون أموراً ثلاثة في وقت واحد: فأوّلاً، هم لم يحتملوا التفوّق المصحوب بالغزو، وثانياً، أحسّوا بشيء من الحيرة حيال طبيعته أو (سرّه)، وثالثاً، بدا لهم أنّ محاولات الانتصار عليه أقرب إلى العبث؛ إذ لا تفضي إلى انتصار. وهذا جميعاً أنتج ما يشبه الفرار من الواقع على نحو يمكن أن نسمّيه رومنطيقيّاً».
و«هكذا كانت كلّ مواجهة حادّة مع الواقع تدفع بنا إلى بؤس التخبّط الذي ينقلب، مع حصول الهزائم، إلى لطم وعجز عن الفهم يزيدان في غربتنا عن العالم ومجرياته».
كيف السبيل للخروج من مأزق الرومنطيقية القاتلة لدينا؟
الجواب هو أنّه للخروج من هذا لا بدّ من: «أمرين لا غنى عنهما: فمن جهة، لا بدّ من العمل على استبدال بالنظرة الضدّيّة والصراعيّة إلى هذا العالم، وإلى الغرب تحديداً، نظرة تكامليّة تحاول دائماً تحسين شروطها في التكامل. ولا بدّ لميل كهذا أن يتلازم مع الكفّ عن الحفر في الذاكرات المؤلمة وعن فرْك الجروح القديمة بالملح والبهار».
بمقاربات أكثر تحديداً، فإنَّ أجلى مظهرٍ يكشف عن كارثية النظرات الحالمة، أو الرومنطيقية، يتشخّصُ في حالات مثل:
فكرة الأمّة السورية الكبرى (أنطون سعادة)، أو الأمّة العربية العظمى (عبد الناصر وغيره)، أو الخلافة وأستاذية العالم (حسن البنّا)، وكل التلوينات على هذا الخطوط الرئيسة.
الرومانسية ضرورة للجانب المتعالي التجريدي من الإنسان، كالفنون وأمثالها من مناطق الوجدان، لكنَّها قاتلة لمعاش الناس العادي.
من المهمّ من حينٍ لآخر، التوقّف عن الهرولة المُضنية، والتقاط الأنفاس، والتريّث حتى تهدأ عواصف الصخب، من أجل الإصغاء العميق لتأمّلات كاشفة كتأملات مُقشّر الطلاء الرومنطيقي... حازم صاغية.