: آخر تحديث

«الفائدة» بين مطرقة ترمب وسندان باول!

4
4
4

علي محمد الحازمي

خفّض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع الماضي أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، خطوةٌ وصفها الكثيرون بأنها «حذرة أكثر مما يجب»، لكنها فجّرت مجدّدًا صراعًا مكتومًا بين الرئيس دونالد ترمب ورئيس الفيدرالي جيروم باول. فبينما يرى ترمب أن هذه الخطوة أشبه بجرعة مسكّن صغيرة لاقتصاد يحتاج عملية جراحية كاملة، يصر باول على أن الوقت ما زال غير مناسب لمغامرات نقدية قد تفجّر التضخم من جديد.

ترمب لا يخفي ضيقه من هذا النهج البطيء. فمنذ لحظة انتخابه، بنى خطابه الاقتصادي على وعود بتحريك عجلة النمو بقوة، وتخفيف أعباء القروض عن كاهل الأسر والشركات. وفي رؤيته، أي خفض أقل من نصف نقطة ليس سوى تلاعب بالأرقام دون أثر حقيقي في جيوب الأمريكيين. هو يريد خفضًا كبيرًا وسريعًا يعيد البريق لأسواق المال، ويحفّز الاستثمار، ويمنحه في الوقت ذاته ورقة رابحة في مواجهة خصومه السياسيين. بالنسبة لترمب، النمو السريع ليس خيارًا بل ضرورة سياسية واقتصادية، وأي تلكؤ من الفيدرالي يُقرأ كعقبة في طريق «أمريكا العظمى».

أما جيروم باول، فيقف متحصّنًا بدرس السبعينيات الذي يحذّر من أن التضخم إذا انفلت يصعب ترويضه. هو يعلم أن التضخم تراجع من ذروته، لكنه ما زال أعلى من 2%، والمخاطرة بخفض حاد للفائدة قد تطيح بما تحقق من استقرار نسبي. لذلك جاء خفض 25 نقطة كرسالة مزدوجة: تلبية جزئية لضغوط السوق والبيت الأبيض، وتأكيد أن الفيدرالي لن يفرّط في استقلاليته. باول هنا لا يواجه ترمب وحده، بل يواجه فكرة أن السياسة يمكنها أن تملي على الاقتصاد إيقاعه.

في الجوهر، نحن أمام صراع بين زمنين: زمن السياسة الذي يقيس النجاح بارتفاع مؤشرات الأسهم وانخفاض تكاليف القروض في الأمد القصير، وزمن الاقتصاد الذي يقيس النجاح بالقدرة على تحقيق نمو طويل المدى دون موجات تضخمية تقوض كل الإنجازات. ترمب يرى الأرقام بعين الناخب، وباول يقرأها بعين التاريخ. وهذه ليست معركة شخصية بقدر ما هي معركة حول من يملك دفة قيادة الاقتصاد الأمريكي.

الأثر لا يتوقف عند الداخل. فالعالم كله يترقب قرارات الفيدرالي الأمريكي كمن يترقب نبض قلب النظام المالي العالمي. خفض سريع وكبير للفائدة قد يضعف الدولار ويفتح شهية المستثمرين على المخاطر في الأسواق الناشئة، لكنه في الوقت نفسه قد يعيد التضخم للواجهة ويقلب موازين التجارة العالمية. أما الاستمرار في الحذر فيعني بقاء تكلفة التمويل مرتفعة، وضغطًا أكبر على ديون الدول النامية، وتباطؤًا في الاستثمار الدولي.

الحقيقة أن خفض الفائدة الأخير لم يحسم الجدل بل كشف عمقه. ترمب يرى أن باول يعرقل مسيرة النمو ويكبح «الحلم الأمريكي» بقيوده الأكاديمية، بينما يرى باول أن ترمب يغامر بالاقتصاد في سبيل مكاسب سياسية سريعة. في النهاية، قد يفرض الواقع مسارًا وسطيًا: تخفيض تدريجي مشروط، يوازن بين تهدئة الأسواق وضبط التضخم. لكن حتى هذا الخيار لن يوقف السجال بين الرجلين، لأن الصراع هنا ليس حول 25 أو 50 نقطة أساس، بل حول من يمتلك الكلمة الأخيرة في أكبر اقتصاد في العالم: البيت الأبيض أم الاحتياطي الفيدرالي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد