ميسون الدخيل
على مر التاريخ، نهضت الحضارات وسقطت، غالبًا بسبب الصراع الداخلي الذي يغذيه الحقد والانقسام. قد تبدو التغيرات التي تحدث داخل المجتمعات غير مهمة في البداية، لكن الاستمرارية والتضخم في الحجم قد يؤديان إلى عواقب وخيمة، نعم، يمكن للأفعال الصغيرة، التي يحركها الغضب أو الخوف، أن تفكك نسيج المجتمع، مما يؤدي إلى الفوضى والدمار. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذي يقوم بدور المحرك الأساس لهذه القوى المدمرة؟ إحدى الحكايات التي توضح هذا المبدأ هي قصة «تحريك الوتد»، «يقال إن شيطانًا أراد مغادرة المكان الذي عاش فيه مع أبنائه، رأى أحدهم خيمة وأسر في نفسه قائلاً:»لن أغادر حتى أفعل بهم الأفاعيل«، اقترب من الخيمة فوجد بقرة مربوطة بوتد ووجد امرأة تحلبها وولدها بجانبها فقام فحرك الوتد، عندها خافت البقرة وهاجت بعنف، انسكب الحليب على الأرض، وفي الفوضى، دُهس ابن المرأة ومات على الفور، دفعت المرأة، التي استنفذها الغضب، البقرة، وضربتها بقوة، وطعنتها بسكين وقتلتها، عندما عاد زوجها، وجد طفلهم ميتًا والبقرة أيضًا، غضب وطلق زوجته بعد أن عنفها وضربها، فقط ليقابل بالانتقام من عائلتها، تصاعدت دائرة العنف هذه، وجذبت مجتمعاتهم وأسفرت عن صراع واسع النطاق. شاهد الشيطان الاقتتال والفوضى وسأل في حالة من عدم التصديق ابنه،»ماذا فعلت؟ «أجاب الابن:»ببساطة كل ما فعلته أنني حركت الوتد«. في السنوات الأخيرة، وجدت الولايات المتحدة نفسها في حالة من الاضطراب، بعيدة كل البعد عن تلك الدولة المستقرة والموحدة التي عدها كثيرون قائدة ومثالا للتمدن والقوة ذات الحضارة والتاريخ، بل أيقونة الحرية ومسرى تحقيق أحلام الرفاهية والعيش الكريم الذي جعل كثيرين عبر تاريخها يشدون الرحال إليها. لكن اليوم تغيّر هذا الوضع المجازي بالفعل، مما أثار سلسلة من ردود الفعل التي تهدد ليس فقط تماسكها الداخلي، بل النظام الدولي أيضًا. لقد أصبح المناخ السياسي في الولايات المتحدة عدائيًا بشكل متزايد، ولا أتحدث هنا عن الخارج فقط بل أيضًا الوضع الداخلي؛ لم يعد اليسار واليمين مجرد طرفين متعارضين؛ بل غالبًا ما يُنظر إليهما كأعداء شرسين، ينظر كل منهما إلى الآخر بريبة وازدراء، ولقد شهدنا كيف أن الانتخابات الرئيسية فاقمت هذه الانقسامات، خصوصاً مع وجود خطابات وتصريحات غالبًا ما تثير الغضب ومزيدًا من الانقسامات بدلًا من التفاهم، وعلى ما يبدو فإن أسس الديمقراطية قد اهتزت مع تصاعد الخلافات السياسية إلى عداوات شخصية، مما أثار المخاوف بشأن الحوكمة وصنع القرار على المستوى الوطني. وصلت التوترات العرقية والإثنية إلى ذروتها، لا سيما بين مجتمعي السود والبيض؛ وقد سلّطت حركة»حياة السود مهمة«الضوء على قضايا العنصرية الممنهجة، مشعلة احتجاجات ونقاشات تتحدى الوضع الراهن، ومع ذلك، غالبًا ما تُقابل هذه الحوارات بالمقاومة، مما يزيد من تعميق الانقسام، بل وأيضًا تصاعدت النزعة القومية، مصوّرةً المهاجرين على أنهم غرباء ومغذّيةً خطاب»نحن ضدهم«؛ وقد أثار هذا الخوف والعداء، مما خلق بيئةً غالبًا ما يطغى فيها الشك على التعاطف. ومما يزيد من تعقيد هذه القضايا التراجع الواضح في الأخلاق والقيم في المجتمع الأمريكي؛ فبعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُوصف سابقًا بأنها أمة محافظة تتقي الخالق، تعاني أمريكا اليوم من انتشار سلوكيات تُوصف غالبًا بالانحطاط، وقد دفع تآكل القيم التقليدية كثيرين إلى التشكيك في البوصلة الأخلاقية للمجتمع، مما أسهم في شعور بالانحلال الأخلاقي يتغلغل في مختلف جوانب الحياة. أضف إلى ذلك تصاعد خطابات العداء المتبادل بين الشخصيات الرسمية والمرموقة والإعلامية، إضافة إلى كراهية الإسلام أضاف طبقة أخرى من التعقيد إلى النسيج الاجتماعي الأمريكي، وشهدت جرائم الكراهية ضد هذه المجتمعات تزايدًا مُقلقًا، كاشفةً عن تحيزات راسخة لا تزال قائمة. ويبقى السؤال: كيف وصل الأمر إلى مرحلة يبدو فيها الخوف والكراهية مُسيطرين على الحوار في بلد يدعي الديمقراطية وحماية حرية الرأي؟ أصبح العنف واقعًا مُريعًا في أمريكا، مع وقوع حوادث إطلاق نار جماعي بوتيرةٍ مُروّعة، وتمتد آثار كل حادثة عبر المجتمعات، مُخلّفةً وراءها صدمةً وخوفًا دائمين، كما تُعدّ محاولات اغتيال الشخصيات العامة بمثابة تذكيرٍ صارخٍ بأن المناخ السياسي قد أصبح مُتقلّبًا، مما قد يُهدد الاستقرار ليس فقط على الصعيد المحلي، بل أيضًا على الصعيد العالمي. إن أفعال فرد واحد، سواءً أكانت تحريك وتد أم التحريض على العنف، قد تُطلق العنان لسيل من العواقب، وهنا نجد كيف أن قصة»تحريك الوتد«تمثل هنا رمزًا قويًا لعصرنا؛ ففعل واحد يبدو تافهًا قد يُفضي إلى الفوضى والدمار، كما يتضح في الصراعات المتصاعدة التي نشأت من خلافات بسيطة. في العصر الرقمي، لا يُمكن المبالغة في دور الإعلام، حيث تُضخم منصات التواصل الاجتماعي الانقسامات، مما يُتيح الانتشار السريع للمعلومات المضللة وخطاب الكراهية، كما يُمكن لوسائل الإعلام، التي غالبًا ما تُحركها التقييمات والإثارة والأجندات الخاصة، أن تُشوّه الروايات، مما يُفاقم التوترات. بينما نتأمل في حال أمريكا اليوم، علينا أن نسأل أنفسنا: من الذي حرك الوتد؟ ما هي الأفعال، مهما كانت صغيرة، التي أسهمت في مناخ الخوف والانقسام الحالي، كيف نبدأ في فهم تعقيدات هذا الواقع، ما هي تداعيات الصراع الداخلي الأمريكي على السلام والأمن العالميين، كيف يمكن للقرارات المتخذة في هذه البيئة المضطربة أن تؤثر على دول تتجاوز حدودها سوى أنها تؤدي إلى صراعات ودمار حول العالم؟! من حرك الوتد؟ لا أعتقد أننا بحاجة إلى عبقري لحل اللغز. ما علينا سوى تتبع النقاط وربطها منطقيًا، وسنكتشف المستفيد الأكبر، الرابح دائم الظهور على خارطة الأحداث العالمية! هل أحتاج إلى مزيد من الشرح أم وصلت الرسالة؟ المريح حقًا هو أنه بعد تتبع وتحليل الأصوات الصاعدة على الساحة عندهم، حدث أن لاحظت تغييرا في الوعي الجمعي لدى المجتمع هناك خاصة لدى الشخصيات المؤثرة ومتتبعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظت ما يطلقون عليه:»الاستيقاظ الكبير"، لقد فهموا أخيراً أو لنقل تتبعوا الخيوط ووصلوا النقاط فظهر لهم من هو محرك الوتد! ماذا بعد الاستيقاظ؟ لننتظر ونرى، وإن غدًا لناظره قريب! نافذة نهضت الحضارات وسقطت، غالبًا بسبب الصراع الداخلي الذي يغذيه الحقد والانقساممن حرك الوتد
مواضيع ذات صلة