التنازل في العلاقات الإنسانيَّة، كثيرًا ما يُنظر إليه كدليلِ نُضجٍ وحكمةٍ؛ حين يختار شخصٌ التَّراجع عن بعض مطالبه؛ حفاظًا على علاقة، أو تفاديًا لتصعيد غير ضروريٍّ. غير أنَّ ما يبدو بسيطًا على مستوى الأفراد، يصبح بالغَ التعقيدِ في العلاقات الدوليَّة، حيث لا تتمُّ التنازلات بعفويَّة، بل تُصاغ في سياقٍ تحكمُه موازينُ القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، وتخضع حساباته لمعايير المصالح، لا للعواطف، أو النَّوايا الحَسَنة.
وعندما يفرضُ الطرفُ الأقوَى شروطَه على طاولة التفاوض، تتحوَّل التنازلات إلى اتفاقيَّات غير متكافئة تُعرف بـ"harsh treaties"، أو الاتفاقيَّات الجائرة. هذا المفهوم ارتبط تاريخيًّا بمعاهدة فرساي (1919)، التي فُرضت على ألمانيا، عقب الحرب العالميَّة الأُولَى، وألزمتها بتعويضاتٍ ماليَّةً باهظةً وقيودٍ عسكريَّة مشدَّدة، واقتطاع أراضٍ واسعةٍ، حتَّى أنَّ الاقتصاديَّ البريطانيَّ جون ماينارد كينز، وصف الاتفاقيَّة في كتابه (العواقب الاقتصاديَّة للسَّلام) بأنَّها "سلام كارتاجي"، أي سلامٌ يقومُ على الإذلالِ والتَّدمير للطَّرف المهزومِ، كما حصل مع قرطاج في العصور القديمة. وحذَّر كينز من أنَّ مثل هذا السَّلام لن يُرسِّخ الاستقرار، بل سيزرع نقمة ستنفجرُ عاجلًا أو آجلًا.. وبالفعل، لم يمضِ سوى عقدين حتَّى اندلعت الحرب العالميَّة الثَّانية؛ لتؤكِّد صحَّة هذا التنبؤ.
أمَّا اتفاقيَّة ميونيخ عام 1938، التي منحت هتلر حقَّ السيطرةِ على إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، مقابلَ وعودٍ بالسَّلام، فتُعتبر مثالًا آخرَ على الوجه السلبيِّ للتنازلات الجائرة. الاتفاقيَّة تمَّ تقديمها حينها كحلٍّ وسط يُجنِّب أوروبا حربًا وشيكةً، لكنَّها لم تؤدِ إلَّا إلى تشجيع النازيَّة على مزيدٍ من التوسُّع، لتُسجَّل في التاريخ كتعبيرٍ صارخٍ عن "التنازل القاتل"، الذي مهَّد الطريق إلى حربٍ عالميَّة أكثر فتكًا وتدميرًا.
وفي الحاضر، لا تزال الأمثلة حاضرةً، ففي الأزمة الأوكرانيَّة تجري المفاوضات على وقع معادلة معقَّدة، تخشى فيها أوكرانيا أنْ تؤدِّي أيُّ تسويةٍ إلى تقويض سيادتها، أو إضفاء الشرعيَّة على أمرٍ واقعٍ مفروضٍ عليها، بينما ترى روسيا في تمدُّد حلف الناتو شرقًا، تهديدًا مباشرًا لأمنها القوميِّ.. وهكذا يصبح التنازل -سواء من كييف، أو موسكو، أو العواصم الغربيَّة- جزءًا من لعبة دقيقة بين استقرار مؤقَّت، واحتمال إنتاج تسوية غير عادلةٍ، قابلة للانفجار.
وفي الحرب على غزَّة، تتكرَّر الصورة من زاوية أُخْرى، فالمفاوضات حول وقف إطلاق النَّار، أو تبادل الأسرى، أو إدخال المساعدات الإنسانيَّة؛ تجري في ظلِّ تفاوت صارخ في القوَّة، وسط ممارسات تقومُ على الحصارِ والإبادةِ والتَّجويعِ والتَّهجيرِ. وأي ترتيبات نهائيَّة تُكرِّس وضعًا غير عادلٍ، أو تُلزم الطرفَ الأضعفَ بتنازلات قسريَّة، لن تكون سوى بذرةً لصراع دمويٍّ جديدٍ، فالتاريخُ يُعلِّمنا أنَّ الحقوق المؤجَّلة لا تسقط بالتَّقادم، وكما يقول المثل: "ما ضاع حقٌّ وراءه مطالب"، طالَ الزَّمان، أو قصر.
إنَّ مغزى "دبلوماسيَّة التنازلات" يتجاوز البحث عن حلول وسط آنيَّة.. السؤال الجوهريُّ هو: هل تصاغ التنازلات في إطار عادل ومتوازن يقود إلى سلام حقيقي، أم تُفرض في ظل اختلال موازين القوى، فتتحول إلى عبء وقنبلة مؤجلة؟.. إنَّ التجارب من فرساي، وميونيخ امتدادًا إلى أزمات اليوم، تؤكِّد أنَّ التسويات الجائرة قد تُطفئ الحريق مؤقتًا، لكنَّها تزرع جذورًا لنيران أشد اشتعالًا.. ومن هنا، يبقى التحدِّي الحتمي هو تحويل التنازل من أداة إذعان إلى أداة بناء، ومن نقطة ضعف إلى أساسٍ لسلام أكثر رسوخًا وعدالةً.
دبلوماسية التنازلات.. والسلام القرطاجي الجائر
مواضيع ذات صلة