: آخر تحديث

Baraka movie (1992)

1
2
2

محمد ناصر العطوان

في أحد مساءات الشتاء الكويتية من عام 2015، دعاني صديقي/ معلمي كامل النابلسي، إلى بيته من أجل مشاهدة فيلم فريد من نوعه، فيلم من دون حوار ولا ممثلين ولا قصة تقليدية... تسبب لي بصدمة وجودية.

تخيل معي عزيزي القارئ، فيلم وثائقي من دون كلام ولا حوار ولا حتى راوٍ! لا توجد شخصيات ولا قصة خطية. لكن ما إن تنتهي من مشاهدة الفيلم الذي مدته ساعة و40 دقيقة، تجد نفسك تحتاج إلى جلسة صمت وتأمل من أجل أن تستوعب ما رأيته.

هذا هو فيلم Baraka (ومعناه «نَفَس الحياة» أو «البركة» بلغة أهل الإسلام).

المخرج Ron Fricke كان يريد أن يأخذ المُشاهد في «رحلة بصرية حول العالم» من دون كلام. واستخدم كاميرات 70mm من أجل الحصول على صور مذهلة.

فماذا كانت النتيجة؟ فيلم يقول لك «أنت جزء من كون كبير، ولست مركزه».

ما الذي يحدث في هذا الفيلم تحديداً؟

رحلة في أكثر من 24 موقعاً في 6 قارات، الفيلم عبارة عن سلسلة مشاهد مترابطة مواضيعياً وليس زمنياً، ليتنقل بين أديرة البوذيين ومكة والمدينة ومشهد، وشوارع طوكيو المزدحمة، وقبائل في غابات الأمازون، ومصانع الدجاج التي تشبه معسكرات اعتقال، وأنقاض حضارات قديمة، وصور للقدس والمسجد الأقصى والحركات الصوفية، ونهر الحياة في الهند، وطقوس العبادة للقبائل البدائية، وناطحات السحاب، والمهمشين من الحضارة الحديثة، وصور الطفولة المظلومة، والقواعد الأميركية العسكرية، والمعمار بين الماضي والحاضر، والغابات والأنهار والشلالات والجبال والسحاب المسخر بين السماء والأرض...

وكل ذلك مع تقنيات جعلت الفيلم تحفة فنية باستخدام التصوير بكاميرا 70mm - ما يعادل 8K في الوقت الحاضر، وموسيقى من تأليف Michael Stearns التي مزج فيها بين أصوات طبيعية وموسيقى روحانية ومونتاج قطع سريع بين المشاهد من أجل أن يخلق مقارنة بين السلام والفوضى.

ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن الفيلم من إنتاج 1992، ويحكي قصة الصراع بين الطبيعة والتصنيع، ويقارن بين جمال الطبيعة (شلالات، جبال، غابات) وجبروت الصناعة (مدن متوحشة، مصانع، زحام). فهناك مشهد مشهور لآلاف الكتاكيت في خط إنتاج ميكانيكي، يجعلك تتساءل: هل أصبحنا آلات؟

يحكي الفيلم أيضاً قصة التناقض بين الروحانيات والمادية، ويضع الفيلم الكاميرا على وجوه أناس من ثقافات مختلفة وهم يتأملون ويُصلّون ويعملون بشكل جماعي... يريد أن يخبرك أن الجميع يبحث عن معنى في الحياة لكن بطرق مختلفة.

ويحكي أيضاً الفروقات والوحدة الإنسانية حيث يُظهر بوضوح تنوعاً بشرياً مذهلاً من رقصات القبائل الأفريقية، لصلاة المسلمين، لطقوس الدفن لدى الهندوس. ويوضح أن الجميع يأكل، وينام، ويتألم، ويفرح.

هذا الفيلم لن يعجب أولئك الذي يبحثون عن قصص تقليدية أو رسائل مباشرة، ولكنه مناسب جداً للذين يحبون السينما التجريبية، والفلسفة، والتأمل.

حسناً عزيزي القارئ! لماذا هذا الفيلم مهم في 2025، ولماذا أكتب عنه بعد عشر سنوات؟ الفيلم يتحدث عن تهديد التصنيع للبيئة (قبل 30 عاماً من أن يصبح التغير المناخي «تريند») وفقدان الروحانيات في العالم الحديث (قبل ما الـ Mindfulness تصبح موضة) وتهديد التنوع الثقافي بسبب العولمة (قبل ظهور السرديات البديلة للعولمة).

إنه بحق فيلم سابق زمانه بكثير... تماماً مثلما كان الشخص الذي دعاني لرؤيته. فربما أردت أن أشكر كامل أيضاً على هذه التحفة التي أهداني إياها لترافقني في الحياة.

الفيلم لا يعطيك إجابات، ولكنه يسألك مجموعة من الأسئلة مثل: نحن كبشر إلى أين نتجه؟ هل التقدم التكنولوجي تقدم أم كارثة؟ لماذا رغم كل الرفاهية التي لدينا إلا أننا نفتقد للبركة والسعادة؟

عزيزي القارئ... الفيلم متاح بالكامل على YouTube بـ HD - ومهما كان عمره، مازال يضرب على وتر حساس في القرن الـ21...

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد