: آخر تحديث

الفكر والإرادة والتاريخ

2
2
1

أحمد برقاوي

لا نقصد بالتاريخ هنا وقائع الماضي التي حدثت، بل التاريخ بوصفه سيرورة التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية المتعلقة بالدول والجماعات والعالم.

فالحروب ظاهرة تاريخيّة، والحداثة وما بعد الحداثة ظاهرة تاريخيّة، والصناعة والتقنية والعلم والنظريات والأيديولوجيات إلخ كلها تنتمي إلى حركة التاريخ.

ولا شك في أن التاريخ يجري بشكل موضوعي عفوي وبشكل إرادي، بسبب مصادفات غير متوقعة وبشكل يحقق التوقع.

الآن لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية أو قانونية فقط، بل إنه ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم وهذا ما نسعى لكشفه، ولا يمكن عزل التراجيديا التاريخية أو الكوميديا التاريخية عن الفكرة التي تسعى الإرادة إلى تحقيقها.

فهناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة للتطور التاريخيّ الموضوعي وقطع الأعناق والإمكانات، وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأس ٍ خالٍ من جدل الإمكانية والواقع والإرادة، فالنازية وفكرة العنصرية قادت ألمانيا إلي الدمار، وخلفت مأساة في القارة الأوروبية.

وقس على ذلك تلك الأفكار الزائفة التي تجمّل للإرادة أن تسعى لتحقيقها، أفكار تخلو من الواقعية ومنطق الواقع والشروط الموضوعية كالإرادة التي تتكئ على الأيديولوجيات الأصولية وأوهامها.

هناك فرق بين الفكرة الواقعية التاريخية الساعية للتحقق في الواقع ما كان قابعاً في رحم الواقع، وهنا تتحول الإرادة إلى قابلة قانونية لولادة التاريخ الجديد.

وتكمن المشكلة في إرادة تظن نفسها إرادة واقعية دون أن تنتبه إلى أن الحمل الكاذب لا ينطوي على جنين تاريخي، وعندها تتحول الإرادة إلى ضحية مجانية.

يُضاف إلى ما سبق ذكره وجود الإرادة الحمقاء التي تتوهم بأنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال عاصف في سيره. إن الخراب الذي تولده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الانحطاط الكلي إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.

والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الاغتراب الذي يزين لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة، في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.

يكمن خطر الإرادة الحمقاء، أو الإرادة الغبية، في تجاهل الجديد التاريخي والوقوف ضده اعتقاداً منها بأنها قادرة على تجميد التاريخ.

فيحصل أن تنتصر مصادفة تاريخيّة متناقضة مع منطق التاريخ الذي هو منطق التحول والتغير والتجديد، وتتحول إلى قوة حاكمة عبر أساليب قمعية تمنع قيام العلاقة بين التطور التاريخي العالمي والمجتمع الذي تتحكم به بحجة الخصوصية المطلقة.

لا شك في أن حركة التاريخ العالمي والتقدم التاريخي لا ينفيان خصوصيّات المجتمعات بعاداتها وبعض تقاليدها وقيمها.

فرفض إنجازات التاريخ العالمي باسم الخصوصية المطلقة هو رفض للتاريخ العالمي الذي عزز المشترك الإنساني في جوانب كثيرة. فدبي، مثلاً، هي أكبر مثال على وحدة التاريخ العالمي، ما الذي جعل دبي «ومدن الإمارات بعامة» مدينة عالمية وتحتوي على كل إنجازات التقدم التاريخي العالمي مع الاحتفاظ بخصوصيات لا تشكل عقبة أمام حضورها العالمي؟ إنها الإرادة العقلية المتطابقة مع منطق التاريخ العالمي، وكل واقعة جديدة تخلق في أحشائها إمكانية جديدة تسعى الإرادة الواعية لتحقيقها.

إن الإرادة الحمقاء ذات الوعي الضيق الخائفة من التغير والتقدم والتطور واستيعاب منجزات الحضارة البشرية تخلق أسباب فنائها دون أن تدري. وآية ذلك أنها إرادة تقف حاجزاً أمام حاجات المجتمع التي ولدها التقدم التاريخي والذي أصبح، أي المجتمع، قادراً على التعرف إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أزالت الحدود المعرفية وما يرتبط بها من وعي قيمي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد