: آخر تحديث

السعودية... سردية وطنية متجددة

2
2
2

اليومُ الوطنيُّ السعوديُّ الخامسُ والتّسعونَ، هو لحظةُ وعي تتجاوزُ الزمنَ، وعتبةٌ فلسفيةٌ على مسارٍ يقترب من اكتمال قرنٍ كامل. ليس حدثاً بروتوكولياً أو ذكرى متكررة، بل مناسبة متجددة لإعادة التفكير في سردية وطنية عميقة صنعتها تجربة التوحيد، حيث تحولت أرض مترامية الأطراف، شديدة التمايز والاختلاف، إلى كيان واحد له هوية متماسكة. لم يكن التوحيد مجرد جمع للشتات، بل كان انبثاق أسطورة مؤسسة أطلقت مشروعاً للمعنى، لا للسلطة وحدها.

اليوم الوطني الخامس والتسعون يأتي في لحظة تاريخية فارقة؛ إذ المملكة السعودية على بعد خمس سنوات وإكمال قرن على مشروعها المؤسس: التوحيد الذي لا يعبر عن مفهوم فكري أو حدث سياسي، بل يرقى بتوسيع المفهوم وقراءته في أبعاده الفلسفية إلى أسطورة مؤسسة وسردية جامعة تصهر فسيفساء جغرافية واجتماعية وقبلية ودينية في نسيج وطني متماسك، متجاوزةً بذلك تجربة شديدة التعقيد في بناء الهوية.

الاستثناء السعودي في مسألة «الهويّاتية» في إطارها الفلسفي أنَّها هوية لم تُحبس في الماضي رغم عراقته وامتداد جذوره الضاربة في القدم، بل استحال إلى هوية ديناميكية يستمد السعوديون منها طاقة يومية لاستشراف المستقبل. وفي زمن الاضطرابات الإقليمية والانقسامات، برزتِ السعودية نموذجاً مختلفاً. بينما عجزت دول عديدة عن ترسيخ هوياتها الوطنية، أو انهارت مؤسساتها في مواجهة التحديات، واصلت السعودية تعزيز سرديتها الجامعة، وحوّلتها إلى مشروع سياسي واقتصادي وثقافي متجدد. ولعلَّ هذا ما جعل المراقبين الدوليين يرون أنَّ استقرار الشرق الأوسط يبدأ من الرياض. وهذا ما قاله جوزيف ويستفال، السفير الأميركي السابق في الرياض، إنَّ المملكة «لاعب رئيسي في استقرار الشرق الأوسط»، فيما يحضر تعبير كيسنجر الذي يفسر سر قوة السعودية اليوم بعبارته الشهيرة: الدولة القوية «هي التي تحوّل مواردها إلى مكانة».

هذه التجربة الفريدة التي صاغتها المملكة عبر عقودها التسعين الماضية ليست فقط قصة بناء دولة، بل قصة اجتراح سردية كبرى يتوارثها السعوديون جيلاً بعد جيل، سردية تقوم على الثقة بأن الماضي ليس سلاسل تُقيّد، بل بوصلة تُرشد. من هنا، بات الوطن بالنسبة لهم أكثرَ من حدود وخرائط، إنَّه مشروع يومي لإعادة إنتاج الاستقرار والازدهار، وتجسيد لمعنى أن تكونَ جزءاً من كيان جامع لا يتوقَّف عن الحركة والتجدد.

مع التَّحولات العالمية العاصفة في العقدين الأخيرين، ومع الانهيارات التي عاشتها المنطقةُ عقب موجات الاضطراب السياسي، برزتِ السعودية استثناءً لافتاً. ففي الوقت الذي انهارت فيه كثيرٌ من الدول أمام اختبار الهوية الوطنية، استطاعتِ المملكة أن تعمّقَ سرديتها الجامعة القائمة على التنوّع المتماسك، والولاء لبيت الحكم، والانتماء إلى فكرة الدولة الحديثة. لقد صارت الهُويّة السعودية نموذجاً يُدهش المراقبين بقدر ما يلهم أبناءها، نموذجاً يوازن بين القداسة الدينية التي تضع المملكة في قلب العالم الإسلامي، والحداثة الاقتصادية والثقافية التي تجعلها في طليعة القوى الصاعدة.

حين أُعلنت «رؤية 2030»، نظر إليها بعضهم في البداية كخطة اقتصادية، لكنَّها في جوهرها فلسفة جديدة لبناء الدولة. فلسفة تقول إنَّ الإنسان هو المحور، وإنَّ الطموح لا سقف له، وإنَّ التنمية ليست نمواً رقمياً فحسب، بل صياغة مختلفة لعلاقة المواطن بدولته، ولتموضع بلاده في النظام الدولي. بهذا تحوَّلتِ السعودية إلى ورشة عمل كبرى: مدن ذكية مثل نيوم، مشاريع طاقة خضراء من الهيدروجين والشمس والرياح، إعادة صياغة الخدمات الحكومية بالحوكمة الرقمية، ومكافحة الفساد لتصبح الدولة أكثرَ فاعلية وشفافية، والأهم الوقوف ضد خطاب التطرف والإرهاب بكل قوة.

الأرقام السعودية رغم كل التحديات تترجم هذا التحول؛ فالناتج المحلي تجاوز 1.3 تريليون دولار، لتكون السعودية أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط. بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة 25.6 مليار دولار في عام واحد، فيما ارتفع رصيد الاستثمار الأجنبي إلى نحو 897 مليار ريال (22.5 في المائة من الناتج المحلي). تضاعفت مشاركة المرأة في سوق العمل إلى أكثر من 36 في المائة، وقفزت المدن السعودية في مؤشرات جودة الحياة. أمَّا قطاع النقل الجوي واللوجيستي، فقد ولّد أكثر من 90 مليار دولار من الناتج المحلي، ويتهيأ لمطار الملك سلمان الدولي الذي سيجعل من الرياض خامسَ مركز عالمي للطيران.

هذه ليست بيانات فنية فحسب؛ إذ تعكس في عمقها حقيقة واضحة للعيان لا ينكرها المنصفون، وهي أنَّ السعودية لديها قدرة فائقة على إعادة إنتاج نفسها وتجاوز ثنائية الماضي والمستقبل على أكثر من صعيد، حتى على مستوى مجال الطاقة الذي كسرت فيه الصورة النمطية فهي ما زالت قوة طاقة تقليدية، لكنها في الوقت نفسه تستثمر أكثر من 100 مليار دولار في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، وتقدم نفسها كأحد أوائل اللاعبين في أسواق المستقبل.

على الصعيد السياسي، أصبح حضور السعودية السياسي معبراً عن الأمان الإقليمي، كلنا يتذكر حين سارعت الدول إلى إغلاق أجوائها أثناء التصعيد الإيراني - الإسرائيلي الأخير، تحوَّلت السعودية إلى ملاذ آمن لشركات الطيران العالمية التي اختارت المجال الجوي السعودي، في صورة رمزية كثيفة الدلالة: الأمان والأمان السعودي هو طوق نجاة للمنطقة في لحظة الخطر. في الدبلوماسية، تبنَّت الرياض ما يُعرف بـ«الحياد الإيجابي»؛ لا انكفاء على الداخل، ولا انخراط في صراعات عبثية، بل انفتاح عقلاني يمنحها ثقة الخصوم والحلفاء معاً. من رعايتها الاتفاق مع إيران، إلى دورها في وساطة أوكرانيا وروسيا، إلى موقفها الرافض لتحول حرب غزة إلى مواجهة إقليمية شاملة، يتأكد أنَّ السعودية لا تدير الأزمات فحسب، بل تملك قدرة استباقية لصياغة الحلول.

هذه القدرة تعززها مكانة ثقافية ومعرفية متنامية. فالسعودية لا تكتفي بتقديم نفسها كاقتصاد وسطي، بل كحاضنة للفعاليات العالمية: معارض الكتب، الجامعات المتوسعة، المواسم الثقافية، الفنون التي تُعيد رسم صورتها دولياً. فالقوة الناعمة هنا ليست ترفاً، بل جزء من بناء سردية الدولة الحديثة.

ومع اقتراب المئوية الأولى لتأسيسها، يبدو أنَّ التحدي الحقيقي أمام السعوديين ليس في الحفاظ على منجزاتهم فحسب، بل في رواية قصتهم بأصواتهم هم، لا كما تُروى من الخارج. السعوديون اليوم لا يقبلون أبداً أن يُصاغ مستقبلهم وفق قوالب الآخرين، بل يسعون إلى كتابة سرديتهم بأنفسهم: سردية دولة استباقية، تتجاوز دورها التقليدي، وتدخل إلى نادي القوى الصاعدة برؤية واضحة وإرادة صلبة، وهذا ما يفسر الحساسية العالية والمناعة ضد الحملات المغرضة ضدهم.

العالم يتغير بسرعة: ثورات الطاقة النظيفة، الذكاء الاصطناعي، التحولات الديموغرافية، إعادة تشكيل التحالفات الدولية. وفي هذا المخاض التاريخي، تقف السعودية في موقع مختلف. ليست دولة تتكيف فقط مع الجديد أو تحاول القفز على عوائق التحديات، بل كدولة تبادر إلى إعادة تعريف موقعها وفق شروط العصر. إنَّها لا تنتظر أن يفرض المستقبل قواعده، بل تشارك في صياغتها.

اليوم الوطني الخامس والتسعون إذن ليس مجرد محطة للاحتفال، بل مناسبة لإدراك معنى التحول العميق الذي تعيشه المملكة. إنَّه تجسيد لمسار أمة تقترب من قرنها الأول وهي أكثر ثقة بذاتها، وأكثر حضوراً في محيطها، وأكثر تأثيراً في النظام الدولي. ومن هنا، تتجلَّى كلمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي آمن بالمستقبل رغم كل التحديات وقال: منطقة الشرق الأوسط ستصبح أوروبا جديدة، هذه العبارة يدرك السعوديون أنَّها ليست مجرد كلمات تعبيرية، بقدر ما أنها طموح صلب ومشروع مسنود برؤية تقودها السعودية بخطى ثابتة نحو استقرار الإقليم، وتخفيف النزاعات، وصناعة مستقبل يقوم على السيادة والتنمية والسلام؛ عمودها الأساسي الاستثمار في المواطن السعودي، وعن السرديات لا يمكن القول إلا أنَّ السعودية اليوم بفضل ما بلغته باتت نقطة البداية والنهاية لأي قصة استقرار في منطقة الشرق الأوسط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد