نعيش في عالم لا يعترف إلا بالقوة، وما يحدث في الشرق الأوسط خير دليل على ذلك.. والطريق إلى القوة يمر من بوابة العلم وما يُهيَّأ من طاقات بشرية، وما ينتج من أبحاث ودراسات موثقة، وما له من تأثير إيجابي على المجتمع في مكافحة الفقر والبطالة، ومكافحة التطرف وتعزيز الولاء، وزرع العادات التي تزيده قوة كالقراءة، والرياضة، والأمانة والاستقامة..
نظراً لأهمية المقال، فقد بعثت بالمسودة لكل من وزير تعليم سابق، ورئيس جامعة حكومية، وجامعة أهلية، فالشكر لمعالي الدكتور أحمد العيسى، ومعالي الدكتور فلاح السبيعي، وسعادة الدكتور عبدالرحمن الصغيّر، وسعادة الدكتور سعد الحسين، حيث أثروا المقال بإضافاتهم التي تؤكد أهم أسباب تميز الجامعات، وكيف يستدل على تميزها؟ وسبب الحرص هو إيماني أن الجامعات المتميزة هي الطريق لامتلاك القوة بكل مكوناتها، وهي مصدر الحلول الموثوقة، ليس في المجالات العلمية والتقنية فقط، لكن في معرفة أمراض المجتمع، وأفضل السبل لحلها، وهي المصدر الأساس للحصول على أفضل الكفاءات التي تتطلبها التنمية وأرباب العمل، وبالتخصصات المطلوبة، وحين تشعر الدولة أنها أصبحت خارج المنافسة العالمية في التقدم العلمي والاقتصاد تلتفت إلى تعليمها العالي، وتشكل اللجان للنهوض به، فحين شعرت أوروبا أن جامعاتها لا تلبي متطلبات التنمية من حيث المخرجات، بدأت بإصلاح نظام التعليم العالي لديها، ففي عام 1999 عقد اجتماع دول الاتحاد الأوروبي في إيطاليا وصدر "إعلان بولونيا" الذي نص على استقلالية الجامعات، والتعاون في مجال الأبحاث والسياسات بين جامعات دول الاتحاد الأوروبي. وجذب الأموال من خلال استقطاب الطلبة من مختلف دول العالم عن طريق تحقيق جودة المخرجات، أما اليابان وكوريا وسنغافورة والصين فقد اتخذت جامعاتها المتميزة النموذج الأميركي، مع الخضوع المستمر للتطوير والمراجعة، وبخاصة حين تشتد المنافسة، أو تتعرض الدولة للركود، فتعود للجامعات لإعطائها المزيد من الاستقلالية، والصلاحيات، والأموال لتعزيز البحث، واستقطاب أفضل الكفاءات.
كل ذلك يحتم علينا التركيز على أهم أسباب تميز الجامعات ومنها ما يأتي:
أولاً: أهم أسباب تميز الجامعات في الدول المتقدمة هي استقلاليتها، ليس في الجانب الإداري فقط، وإنما في الجانب المالي أيضا، ففي حين تتلقى معظم الجامعات في الغرب، حكومية أو أهلية الدعم الحكومي من خلال المنح البحثية والدراسية، إلا أنها تتلقى الكثير من الهبات من الأثرياء، والهيئات الخاصة، والأوقاف المختلفة. كما تستطيع تنمية مواردها المالية من خلال بيع حقوق براءات الاختراع والبحث العلمي المباشر، والاستشارات، والاستثمارات التجارية، وهو ما يمنحها المرونة والحرية، ويحملها المسؤولية، ويحميها من الجمود وتأثير البيروقراطية التي تكبل انطلاقة الجامعة وسرعة أخذها بالمتغيرات المطلوبة.
وقد بدأت المملكة في تطبيق ذلك ضمن رؤيتها 2030، وبدأت أولى خطواتها بضم وزارة التعليم العالي إلى وزارة التعليم، والبدء باستقلالية ثلاث جامعات هي جامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبدالعزيز وجامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل. كما أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، خير مثال على ذلك، فلديها استقلال تام يتيح لمجلس أمنائها أن يرسموا أفضل السياسات لتحقيق أهدافها، وله الصلاحيات في اختيار رئيس الجامعة، ودعمها بالأوقاف، وإقرار ميزانيتها، ووضع اللوائح التنفيذية، كسلم الرواتب ونظام الدراسة والقبول وغيرها. أما رئيس الجامعة فله صلاحيات واسعة لإدارة الجامعة وتعيين مساعديه والعمداء والأساتذة، ودعم البحوث، وإقرار أفضل التخصصات التي تتطلبها التنمية.. (التعليم العالي في السعودية، رحلة البحث عن الهوية) أحمد العيسى.
يقول أحد مؤرخي التعليم العالي في أميركا: "النظام الجامعي سهل ومعقد في الوقت نفسه، فأي شخص سواء من القيادات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية يستطيع أن يؤثر في الجامعة، لكن لا يستطيع السيطرة عليها. فهناك توازن في الصلاحيات بين السلطات داخل الجامعة، وبين مجلس الأمناء، والإدارة التنفيذية والإدارة الأكاديمية، وأعضاء هيئة التدريس، وحتى منظمات الطلبة". لذا من المهم دراسة كل العوائق التي تحد من انطلاقة الجامعات، كمجلس الجامعات على سبيل المثال.
ثانياً: يجب أن يكون لكل جامعة هويتها وتخصصها الذي تعرف به، وتركز عليه، وهو مصدر قوتها.. كما يكون لها نشاطها الرياضي، وأنشطتها الثقافية والعلمية، وما تتطلبه من مسارح وعروض تجذب الطلبة وغيرهم في غير أوقات الدراسة، وحتى لا تكون شبه مغلقة بعد انصراف الطلبة، كما يكون لها مساهماتها المجتمعية، بحيث يكون تأثير الجامعة على المجتمع أكثر من تأثير المجتمع عليها، ويجب أن يكون لكل جامعة شبكات من الخريجين داخل المملكة، وخارجها من الطلبة الدوليين، لبناء سمعة الجامعة، وإبقاء التواصل مع الخريجين المتميزين.
ثالثاً: التنافس بين الجامعات مطلوب للمزيد من النجاح.. تنافس لاستقطاب أفضل الأساتذة، وألمع الطلبة، وتعاون في الوقت نفسه بين الجامعات في مجالات الأبحاث والتطوير وتبادل الخبرات، وهذا هو المعمول به في الجامعات الأميركية، وجامعات الاتحاد الأوروبي، وأستراليا بجامعاتها الثماني المتميزة في أبحاثها العلمية، كما أن التعاون والتوءمة مع الجامعات المرموقة في العالم مهم للأخذ بأحدث التطورات، وتبادل الخبرات، والزيارات بين الأساتذة والطلبة، وتبادل البرامج والأنشطة.
نعيش في عالم لا يعترف إلا بالقوة، وما يحدث في الشرق الأوسط خير دليل على ذلك.. والطريق إلى القوة يمر من بوابة العلم وما يهيأ من طاقات بشرية، وما ينتج من أبحاث ودراسات موثقة، وما له من تأثير إيجابي على المجتمع في مكافحة الفقر والبطالة. ومكافحة التطرف وتعزيز الولاء، وزرع العادات التي تزيده قوة كالقراءة، والرياضة، والأمانة والاستقامة.