منيرة أحمد الغامدي
تبدأ سورة يوسف عليه السلام بقصة إنسانية خالدة تنم عن ظلم نابع من الغيرة والمكيدة ثم عدل ومكافأة في أبهى الصور. هذه الإشارة الرمزية تمنحنا بعدًا يمكن إسقاطه على واقع المؤسسات المعاصرة حيث يواجه الأفراد أحيانًا إقصاءً وظلمًا في بيئات العمل، ثم تأتي العدالة متى ما وُضعت قواعدها لتعيد التوازن وتطلق الطاقات الكامنة.
في الإدارة الحديثة يُختزل هذا المبدأ في مفهوم العدالة التنظيمية (Organizational Justice) وهو ليس مجرد شعار أخلاقي بل إطار عملي يؤثر مباشرة على الالتزام الوظيفي (Job Commitment) ورضا الموظفين (Job Satisfaction) والإنتاجية (Productivity). العدالة التنظيمية تتجسد في قدرة المؤسسة على توفير بيئة يشعر فيها كل فرد أن حقوقه محفوظة وأن الفرص تُوزّع على أساس الكفاءة (Competence) لا على أساس الولاء الشخصي.
الظلم في المؤسسات المعاصرة غالبًا ما ينشأ من غياب الحوكمة (Governance) والشفافية (Transparency). حين تُمنح الترقيات بقرارات فردية أو تُسند المهام الحساسة وفق علاقات شخصية تضيع معايير المساءلة (Accountability) وتتآكل الثقة الداخلية. المؤسسات الرائدة عالميًا تطبق أنظمة حوكمة صارمة تجعل كل قرار قابلًا للتبرير والقياس، وتضمن أن يمر عبر قنوات موضوعية، وهذا لا يحمي الموظفين فقط بل يحمي المؤسسة أيضًا من مخاطر السمعة (Reputation Risks) ومن خسارة الكفاءات لصالح منافسين آخرين أكثر عدلًا ووضوحًا.
تلعب إدارة الموارد البشرية (HRM) دورًا محوريًا في رسم ملامح العدالة من خلال أنظمة التقييم الموضوعي (Objective Appraisal Systems) المبنية على مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) ومؤشرات الأداء السلوكية (Behavioral Indicators) هي الأداة الأهم لضمان العدالة. حين تكون عملية التقييم شفافة وقابلة للتنبؤ يشعر الموظفون أن جهدهم مرئي ومعترف به أما حين يعتمد التقييم على الانطباعات أو العلاقات فإنه يقود إلى ما يُعرف بالانسحاب النفسي (Psychological Withdrawal) حيث يكتفي الموظف بالحد الأدنى من الجهد لأنه لا يرى جدوى في التفوق، و هذا الانسحاب يمثل نزيفًا صامتًا يهدد أي مؤسسة مهما بدت قوية في ظاهرها.
العدالة لا تُبنى باللوائح وحدها، بل تحتاج إلى قيادات عادلة، و نموذج القيادة التحويلية (Transformational Leadership) أثبت فعاليته لأنه يركز على إلهام الموظفين برؤية واضحة وعلى تمكينهم (Empowerment) من خلال منحهم الصلاحيات والموارد وترسيخ ثقافة تنظيمية (Organizational Culture) تُقدّر الكفاءة وتعاقب التحيز.
القائد الذي يمارس العدالة يحمي موظفيه من الإقصاء ويمنح المؤسسة القدرة على الاستدامة. غياب العدالة في القيادة ينتج ثقافة سُمّية (Toxic Culture) بينما حضورها يبني ثقافة مستدامة (Sustainable Culture) قادرة على المنافسة عالميًا.
كثير من المؤسسات تقع في أخطاء إدارية قد تهدد تماسكها الداخلي لكن الفارق بين مؤسسة وأخرى يكمن في قدرتها على تطبيق إدارة التغيير (Change Management). الظلم المؤسسي مثل تهميش الكفاءات أو قرارات الترقي غير العادلة قد يكون أزمة حقيقية، لكنه إذا عُولج بجرأة يتحول إلى فرصة لإعادة البناء على أسس أكثر نضجًا. إدارة التغيير الفعالة تعني مراجعة أنظمة التقييم القديمة وإعادة تصميم الهياكل التنظيمية لضمان توزيع عادل للسلطة (Fair Power Distribution) ووضع آليات واضحة للتظلم والشكوى المؤسسية، و بهذه الطريقة يتحول الظلم إلى محرك للإصلاح المؤسسي بدل أن يكون نقطة انهيار.
العدالة في المؤسسات لا تُقاس فقط بغياب الظلم بل بوجود أنظمة تكافئ المبدعين وتحتضن الطاقات. أنظمة المكافآت العادلة (Fair Reward Systems) تُحوّل الموظف من منفذ للمهام إلى شريك استراتيجي يرى نفسه جزءًا من نجاح المؤسسة وهذا هو جوهر التمكين المؤسسي (Employee Empowerment) وهو أن يشعر الموظف أن مجهوده مرئي ومكافأ وأن مؤسسته تستثمر فيه على المدى الطويل، و عندها وعندها فقط تتحول العدالة من قيمة أخلاقية إلى أداة استراتيجية لزيادة الولاء والإبداع والإنتاجية.
إن العدالة في قصة يوسف رمز يلهمنا أن الظلم لا يستمر وأن العدل حين يأتي يفتح أبوابًا لم تخطر على البال. أما في واقع المؤسسات فإن العدالة التنظيمية ليست قيمة مثالية ولا خيارًا ثانويًا بل هي استراتيجية مؤسسية تحمي من نزيف الكفاءات وتصنع ثقافة قادرة على النمو والتجدد، فالمؤسسة التي تُقصي كفاءاتها تعاقب نفسها قبل موظفيها أما المؤسسة التي تُبنى على الحوكمة والتقييم الموضوعي والقيادة التحويلية والتمكين فهي التي تكتب قصتها في سجل النجاح طويل الأمد.