ليس من السهل أن نفهم تحوّل الإنسان من سلوك هادئ ومسالم إلى نمط من الوحشية المفرطة، إلا إذا أعدنا النظر في التربة النفسية والاجتماعية التي نشأ فيها، فالعنف والانحراف لا ينبعان من فراغ، بل هما ناتج تراكمات بيئية وثقافية وتربوية، تلتقي فيها عناصر الفقر المعرفي، والتهميش الاجتماعي، والانتماء إلى منظومات قبلية متصلّبة، مع انسداد الأفق التربوي وغياب العدالة.
إنّ ما نشهده اليوم من تفشٍّ للعنف المنفلت - سواء على يد جماعات متطرفة أو أنظمة سلطوية - ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد تاريخي لثقافة بدائية غُذّيت على مدى قرون، حيث طغت العقيدة الغريزية على الضمير الأخلاقي، وتحولت الآيديولوجيا أداةَ قتل بدلاً من وسيلة نهضة، والمقصود بـ«العقيدة» هنا ليس فقط الدينية، بل تشمل أيضاً السياسية، والقومية، أو حتى تلك القناعات الاجتماعية التي يتبنّاها الفرد دون تمحيص، وتصبح محرّكاً أعمى لسلوكه.
الإنسان، في جوهره، كائن قابل للتشكّل بحسب البيئة والتربية اللتين ينشأ فيهما، وإن كنا لا نزعم طهارةً مطلقة لسكان منطقتنا الشرق أوسطية، فإن الأغلبية العظمى فيها تنتمي إلى نمط بشري بسيط، يتصف بالنوايا الحسنة وصفاء الذهن وذكاء فطري خام، لكن هذه الطبائع سرعان ما تتبدّل حين تدخل في تماس مباشر مع أدوات السلطة أو إغراء المال، خصوصاً في بيئات لم تخضع لمسارات تنمية تربوية سليمة، ولا تملك أنظمة رقابة مؤسسية مستقلة.
لقد رأينا خلال العقود الماضية، كيف تحوّل عدد من الحكام والقادة، الذين بدأوا حياتهم بشعارات الحرية والعدالة، إلى أدوات قمعية تسكنها نزعات سادية، هذا التحوّل لا يفسَّر فقط بانجرافهم وراء إغراء السلطة، بل أيضاً بضعف البناء السيكولوجي لديهم، وبقاء الشخصية في مرحلة غير ناضجة أخلاقياً.
تظهر آثار هذا الخلل التربوي والنفسي بوضوح في ظواهر التنظيمات المتطرفة كـ«داعش»، التي مارست أنماطاً من العنف تشي بانحرافات سيكولوجية عميقة، لا تُفسّر فقط بالعقيدة بل أيضاً بوجود اضطرابات شخصية (كالسادية والسايكوباثية) لدى عناصرها، حيث تحوّل القتل إلى طقس لذيذ يتفننون في ممارسته، هذا السلوك لم يكن مجرد تنفيذ لأوامر، بل كان انعكاساً لمخزون داخلي من الحقد والتشوه النفسي، غذّته بيئة مفعمة بالكراهية، وتربية قائمة على الإقصاء وتقديس العنف.
إن استقراء البيئة الاجتماعية لهؤلاء يكشف عن أنهم غالباً يتحدرون من مجتمعات تعاني من أمّية متعددة الأبعاد: أمّية أبجدية، أمّية حضارية، وأمّية عاطفية، حيث لا يُدرَّب الفرد على ضبط انفعالاته، ولا يُنمَّى على التفكير النقدي، ولا يُسمَح له بالتعبير الآمن عن ذاته، هذا الفراغ يُملأ لاحقاً بخطاب متطرّف يجد في الغضب وسيلة للتعبير عن الذات، وفي العنف أداة لتأكيد الهوية.
ولا تقتصر هذه الانحرافات على الجماعات المتطرفة، بل تمتد إلى نخب سياسية استسهلت القمع، واستعادت أنماطاً من السلوك البدوي القائم على الثأر والغزو، فمارست السلطة بوصفها غنيمة لا مسؤولية، وهكذا شهدنا المقابر الجماعية، والإبادات القومية، والمجازر الطائفية من الأنفال إلى سبايكر، ومن حلبجة إلى سنجار، وكلها تعبيرات عن هذا الانهيار القيمي الذي يجد جذوره في غياب بناء نفسي وتربوي سليم.
ما يزيد من خطورة هذه الظاهرة هو قابلية استنساخها تحت مسميات جديدة: قومية، دينية، مذهبية، مناطقية... مما يعني أن المشكلة لم تُحل، بل أُعيد إنتاجها بأقنعة أكثر حداثة وأدوات أكثر دموية، وكأننا ندور في حلقة مفرغة عنوانها «إرث العنف»، دون أن ندرك أن كسر هذه الحلقة يبدأ من الطفولة، من التعليم، من الصحة النفسية، من العدالة الاجتماعية، ومن بناء مؤسسات تقف فوق الأهواء والطوائف.
لقد أكّدت الوقائع أن الكرسي - في هذه الجغرافيا - لا يكشف عن جوهر الإنسان، بل يبدّله؛ من شخص بسيط يطمح إلى التغيير، إلى طاغية تحكمه شهوة السلطة ونزعة التملك، وهذا التحوّل السريع يُبرز خللاً تربوياً عميقاً في تكوين الشخصية، حيث لا يتم إعداد الفرد لتحمّل المسؤولية، بل يُدفع فجأة إلى فضاء السلطة دون استعداد نفسي أو أخلاقي.
وإذا أردنا الخروج من هذا المأزق الحضاري، فعلينا أن نعيد الاعتبار للتربية الأخلاقية، والتنشئة السيكولوجية السليمة، والتدريب على المسؤولية والاحترام المتبادل، بعيداً عن منطق القوة والغلبة، فالمجتمعات التي تهمل البعد التربوي والنفسي، تفرّخ الوحوش بدلاً من أن تربي المواطنين.