محمد بن عيسى الكنعان
قبل سقوط نظام بشار في 8 ديسمبر 2024م كانت القوى الظاهرة والفاعلة على الساحة السياسية السورية تتمثل في نظام بشار الطائفي المدعوم من روسيا لأسباب اقتصادية، ومن إيران لأسباب دينية، والقوة الأخرى أو المقابلة لهذا النظام كانت فصائل الثورة من وطنية وإسلامية، أبرزها هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير. وبين هاتين القوتين توجد قوة لا يُستهان بها ولا يمكن تجاهلها، فقد لعبت دورًا رئيسًا ولازالت في أحداث سوريا التاريخية والمعاصرة، وهي القبائل والعشائر السورية، سواءً كانت عربية، أو كردية، أو تركمانية.
وهنا سيرتكز حديثنا عن القبائل أو العشائر العربية؛ نظرًا لدورها المحوري في الأحداث الأخيرة التي وقعت في محافظة السويداء بسوريا خلال يوليو 2025م، وهو امتداد طبيعي ومتوقع لتاريخ هذه العشائر العريقة ومواقفها المشرفة، وتأكيدًا لقيمها السامية التي تقوم على رد الظلم، ونجدة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والكرم لمن أراد الخير والسلام. لكن في المقابل قد يتساءل البعض عن هذا الظهور المفاجئ بتجلياته، والمغاير بأبعاده التي قلبت طاولة الأحداث في السويداء، وأسهم دور هذه العشائر في وأد فتنة الطائفية التي لازال وميض نارها تحت رماد التحريض الطائفي ممن يعارضون مشروع الدولة السورية الجديدة، ويحلمون بالحكم الذاتي والفيدرالية، ويستقوون بالكيان الصهيوني.
القبائل العربية في سوريا بعشائرها تُشكل قرابة (70 %) من المجتمع السوري، وهي تنقسم إلى ثلاث فئات (عشائر حاضرة) تعيش في المدن الحضرية، وعشائر متنقلة ما بين المدن والبادية، وعشائر ثالثة وهم (البدو) الذين يقطنون البادية بأحوالهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية. يصل تعداد القبائل العربية في سوريا إلى 25 قبيلة ينحدر منها عشرات العشائر التي قد تتجاوز الـ40 عشيرة، وهناك من يُقدّرها بأكثر من 80 عشيرة، وهي تتباين في حجمها، وتختلف في انتشارها الجغرافي؛ حيث تنتشر أبرزها في مناطق دير الزور والحسكة والرقة، مثل العقيدات، وطيء، وشمر، وعنزة، والبكارة، والجبور، الشعيطات وغيرها، وفي الوسط والجنوب السوري نجد النعيم، وبني خالد، والظفير، وفي حلب وإدلب، وحماة، وحمص، وريف دمشق نجد السبعة من عنزة، والبوشعبان، والموالي، والحديدين، والبارودية والقائمة طويلة، وفي السويداء نجد الزبيدات والسردية والنعيم، وعشائر السرحان وخربة عواد السلوط من عنزة، ما يعني أننا أمام فسيفساء من العرق العربي. هذه القبائل والعشائر العربية ليست وليدة الموقف السياسي اليوم، ولكنها الرقم الصعب في أية معادلة سياسية سورية، فتاريخها المجيد منذ الفتح الإسلامي للشام، وحتى مقاومة الاستعمار الفرنسي مرورًا بالوقوف في وجه كل تجاوزات الحاكم العثماني إلى استقلال سوريا كان تاريخًا مشرفًا لدورها البارز. وخلال نظام البعث - الذي جثم على سوريا قرابة 60 عامًا - نجح حكم حافظ الأسد في احتواء هذه القبائل والعشائر، وعدم الصدام معها ومنحها حقوقها الوطنية بما في ذلك التمثيل النيابي. وبعد نجاح الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد كان موقف هذه القبائل والعشائر موقفًا وطنيًا خالصًا ونقيًا بالاصطفاف إلى جانب الدولة السورية الجديدة في مرحلتها الانتقالية، لذلك لم تنزع يد الجماعة، ولم تتكلم بلغة طائفية، ولم تمارس الانتقام والانتهازية رغم امتلاكها القوة الكافية، إنما دعمت الجهود الوطنية الرامية إلى الاستقرار وفرض الأمن لبناء الدولة المنهكة.
هنا تبرز القيمة الفعلية للقبائل والعشائر العربية، وأنها بحق الرقم الصعب في المعادلة السياسية السورية، وعظمة دورها جعلتها رقمًا صعبًا؛ وذلك أنها تؤيد الوطنية، وتحارب الطائفية، رغم أنها تُمثل الأكثرية السنية، وتتميز بانتشارها الواسع على مستوى التراب السوري لذلك ترفض كل دعوات التجزئة والفيدراليات، كما تتعامل بأخلاق عربية كريمة وقيم سامية نبيلة مع الجميع دون النظر لعرقه أو طائفته، لذلك هي تحمي الأعراض، وتصون الشرف، ولا تغدر كما يفعل بعض الناس، وهي مع أمن سوريا واستقرار وازدهارها؛ كما لا تعرف الانتهازية السياسية، والحزبية المقيتة، بل تدعم الوحدة الوطنية بكل مكوناتها السورية. من هنا نفهم سر تحرك العشائر لنجدة امرأة سورية مكلومة قتل أطفالها دون الخروج عن مسار الدولة وتعليماتها، حتى قال أحد مشايخ العشائر لو كانت تلك المرأة من غير طائفتنا لنجدناها.