: آخر تحديث

الدين عاطفة جميلة لكنه لا يبني حضارة!

3
3
4

عمر الطبطبائي

في هذا الزمن، أصبح من الطبيعي أن تتحدث بحرية عن أي شيء تقريباً كالماديات، البوذية، المثلية، حتى خرافات الطاقة الكونية، الكثير سيتظاهر بالانفتاح، وربما يصفق لك، لكن قل ببساطة «أنا أؤمن، وأعتز بديني»، وشاهد كيف تنخفض الأصوات، وتتحول نظرات الجالسين إلى شيء بين الشفقة والريبة.

والأدهى؟... أن هذا يحدث بين أناس يُفترض أنهم مسلمون مثلك، لكنهم تبنّوا بوعي أو من دون وعي نمطاً من التفكير يرى الإيمان وكأنه شعور شخصي لا يليق إظهاره، أو إرث ثقافي لا يجب التفاخر به.

تسللت إليهم فكرة خفية أن الدين صفحة من الماضي والتمدن يعني طيّها بلا ندم، لم يُطلب منهم أن يعادوا الإسلام، بل فقط أن يخجلوا أنفسهم من التمسك به، أن يُعامل الإيمان كمسألة داخلية، لا يُفترض بها أن تتجاوز حدود الضمير الشخصي، أن يبقى الدين «صامتاً»، لا يتدخل في المواقف، ولا يُعلن عن نفسه في الحديث، ولا يفرض أثره في العلن.

فالالتزام إذا بدا على السطح يصبح «إقحاماً»، والاقتناع إذا كان صريحاً يُنظر إليه كأنه «وعظ»، حتى الإشارات البسيطة إلى الإيمان كذكر الصلاة أو الحديث عن اليقين تتحول في بعض الأوساط إلى أمر محرج كأن التصريح بها يهدد الذوق العام.

في وعي شريحة ليست قليلة، تتكون فكرة خفية تقول: «آمِنْ إن شئت، لكن لا ترفع صوتك بذلك، فالحداثة تقتضي أن تصمت»!

هكذا أصبح الاستحياء من الدين فضيلة عصرية لدى البعض، وأصبح التدين«الهادئ الخافت» هو الشكل المقبول اجتماعياً، والوضوح فهو تشدد، والفخر فهو تهور، وأما العلن فهو «استفزاز»!

لكن من أين جاء هذا الشعور؟

من الخارج؟ بلا شك.

من العوامل المحيطة؟ ربما.

لكن الأخطر دائماً أن يأتي من الداخل.

والغريب أن هذا الوعي المنكسر لم يقتصر على الأفراد، بل تسلّل حتى إلى مستوى السياسات العامة في بعض الدول، حيث صار التخفف من الدين جزءاً من خطاب البعض، ظنّاً أن ذلك سيفتح أبواب الاستثمارات، ويكسب رضا المستثمرين، ويمنحهم بطاقة دخول إلى «النادي المتحضر».

فبدأت تُقدّم صورة ناعمة، منزوع منها كل ما هو ديني، وكأن المعتقد عبء يجب التخلص منه لتصبح الدولة «مغرية» اقتصادياً.

لكن ما نُسي هنا، أن هذه الأمة لم تبلغ أوج عزها حين تخلت عن دينها، بل العكس تماماً، فحين كانت عاصمة الخلافة تصدر الفقه والعلم والطب والفلك، كان الدين حاضراً في كل زاوية، لم نكن نحكم العالم بالتنازلات إنما كنا نؤثر فيه لأننا لم نعتذر عن هويتنا، فالتقدم لم يكن يوماً نقيضاً للإيمان، بل كان أحد ثماره!

حين تم اختزال صورة المتدين في شخص غليظ، منفصل عن الحياة، عابس الوجه، يوزع الحلال والحرام كأنه يوزع صكوك الغفران، بدأ كثيرون يرفضون الدين لا كعقيدة، بل كهوية مرتبطة بصور منفّرة.

هنا وقع الخطأ الأكبر، أن يتخلى الإنسان عن الإيمان، ليس لأنه ناقشه أو رفضه، بل لأنه لم يعجبه «شكل» من مثّله أمامه، وهذه مأساة فكرية خطيرة، أن تهاجم الفكرة بناء على مظهر من اعتنقها، لا جوهرها.

ثم جاءت المنصات العالمية، «بحيادها المصطنع»، فبدأت تصنع قدوات جديدة، متحرر، بلا جذور، بلا هوية واضحة، يعرّف نفسه بأنه «مواطن عالمي منفتح»، يؤمن بكل شيء، ولا يلتزم بأي شيء، هذا هو النموذج الذي يُحتفى به، فكيف ستبدو أنت، بصيامك، وصلاتك، ووضوحك العقائدي؟، ستبدو متأخراً، غير مندمج، وربما خطيراً.

لكن هذه ليست حرية، هذه هندسة ذوقية ناعمة، تدفعك لتختار ما يريدونه من دون أن تنتبه أنك لم تكن حراً في اختيارك.

النتيجة؟

جيل يخجل من دينه، من دون أن يدري أنه خُدع، جيل يبحث عن «نسخة مُخففة من الإيمان» تناسب الذوق العام، وتتماشى مع موضة «الروحانية من غير التزامات»، جيل يريد أن يبدو ذكياً، فيظن أن أولى خطوات الذكاء أن يضع إيمانه في جيبه.

المؤسف أن بعض الناس بات يظن أن الرقي يكمن في التحلل من الدين، أو على الأقل إخفائه تحت قشرة ناعمة من «التحضر»، كأن الإيمان ثقيل والتدين نقيض للذوق، وكأن الأخلاق لا تأتي إلا من خارج الإيمان، بل رغماً عنه.

هؤلاء لا يعلنون عداوتهم للدين، لكنهم يستبدلونه بلباقة اجتماعية فارغة، وبمفاهيم غربية معلبة تصنع لهم مظهراً «راقياً» بلا مضمون، لكن الحقيقة التي تغيب عنهم هي أن قمة الرقي لا تكمن في مسح الهوية إنما في أن تحملها بأدب وثبات.

أن تكون مؤمناً مهذباً بسيطاً صادقاً، هذه أعلى صور الرقي، فالرقي ليس في التخلي عن الدين ليُقال عنك «منفتح»، بل في أن ترتقي بأخلاقك لأنك تؤمن، وهذا ما حثّ عليه ديننا، حين قال نبيُّنا الكريم: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»، فأسمى ما في الإنسان ليس مظهره بل خُلقه حين يكون نابعاً من وعي إيماني حي.

الحضارة لا تقاس بمقدار ما نخفي من ديننا، بل بمقدار ما نحمله بثبات وسط عالم متغير، فالتحضر الحقيقي لا يعني أن نخجل من هويتنا، بل أن نعرف كيف نتمسك بها من دون أن نُساق.

من يخجل من دينه يخجل من روحه، ومن يخجل من روحه لن يجد ما يستحق أن يفتخر به حتى لو لبس ألف قناع عصري.

اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد