: آخر تحديث

هل الحب حقيقة إنسانية أم خرافة شعرية؟!

3
3
3

منيرة أحمد الغامدي

يظل الحب بين الخرافة والحقيقة أكثر التجارب الإنسانية التباسًا وإغراءً للجدل. فحين نسمع عن قيس وليلى أو روميو وجولييت يخطر لنا أن الحب معجزة تتجاوز كل حدود البشر وأنه طاقة خالدة لا تعرف الفناء. لكن حين نقترب أكثر ندرك أن الحب ليس دائمًا تلك القصيدة المعلقة في السماء، بل هو أيضًا ذلك الامتحان الصعب على الأرض، حيث يتجلى في تفاصيل صغيرة وفي لحظات صبر وتحمّل وفي مواجهة الضجر اليومي.

الحب ليس خرافة بالمعنى الساذج وليس حقيقة مطلقة بالمعنى الجامد، بل هو مزيج بين الوهم والواقع. إن ما يجعلنا نراه أحيانًا خرافة هو أن الصور الشعرية التي تُرسم حوله تضخّمه إلى ما فوق طاقة الإنسان، لكنه يصبح حقيقة حين نعيشه بصدق وحين نتورط في مسؤولياته وحين نكتشف أن الود والالتزام ليس أقل قيمة من اللهفة والاشتياق.

وإذا طرحنا السؤال الذي يتكرر كثيرًا: ماذا لو تزوج قيس ليلى أو غيرهما من العشاق الذين ألهبت قصصهم الخيال الإنساني؟ فالإجابة ليست سهلة. لو حدث الزواج ربما لواجه الاثنان حياة عادية مليئة بالخلافات الصغيرة وتفاصيل المعيشة اليومية وربما انطفأت نار الشوق التي كانت تتغذَّى على البعد والمنع، فالعشق العذري قائم على المسافة وعلى الحرمان وعلى ما لا يُنال. إن الأسطورة إذاً تعيش في الفاصل بين الرغبة والتحقق.

لكن من زاوية أخرى الزواج لا يفسد الحب بالضرورة، بل ربما كان سيكشف عمقًا آخر له وهو أن يتحول العشق إلى مودة وربما الغرام إلى التزام واللهفة إلى أمان. في هذه الحالة يصبح الحب أقل شاعرية لكنه أكثر إنسانية وأكثر نضجًا وأكثر التصاقًا بواقع الحياة وربما أكثر صدقاً. وهنا يكمن السؤال الأعمق: هل نحن بحاجة إلى الحب بوصفه أسطورة تبقى مشتعلة أم بوصفه تجربة حقيقية نتشاركها حتى لو فقدت بريقها الأول؟

ومن زاوية فلسفية ظهر مفهوم الحب الأفلاطوني بوصفه حبًا يتجاوز الجسد ليبحث عن الجمال في صورته الأسمى وعن الحقيقة في أنقى معانيها. إنه حب يعيش في فضاء الروح أكثر مما يعيش في واقع اليوميات، حيث لا يُقاس بالامتلاك، بل بالسمو ولا يُختبر باللقاء، بل بالاشتياق. ولو تأملنا قصص العشاق الكبار لوجدنا أنها أقرب إلى هذا المعنى فقد خُلّدت لأنها بقيت متعالية على التحقق وظلت نارها مشتعلة لأنها لم تُطفأ بماء الحياة اليومية.

ومن هنا يبرز سؤال آخر لا يقل أهمية: هل يمكن أن يتحول الحب إلى كره أو أن يتحول الكره إلى حب؟ الواقع الإنساني يجيب بالإيجاب، فالمشاعر بخلاف ما نتصور ليست ثابتة، بل تتغير مع الزمن ومع التجربة. الحب حين يُخيب أو يُخذل قد ينقلب إلى كره كنوع من الدفاع عن الذات أو كمرآة للخذلان، وفي المقابل الكره قد يذوب مع الفهم والتقارب ليكشف عن حب كان مخبوءًا تحت طبقات من سوء الفهم أو الحواجز. علم النفس الحديث يذهب أبعد من ذلك فيشير إلى أن الحب والكره يشتركان في مسارات عصبية متقاربة في الدماغ ولهذا قد ينقلب أحدهما إلى الآخر بسهولة كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة. وإذا عدنا إلى الفلاسفة سنجد أن أفلاطون تحدث عن الحب كبحث دائم عن نصف مفقود وكأنه جرح مفتوح لا يلتئم، أما ابن حزم في طوق الحمامة فقد صوّره كتجربة إنسانية شاملة لا يمكن أن تُختصر في نزوة، بينما اعتبر نيتشه الحب قوة دافعة للإرادة لكنه قوة لا تنفصل عن الصراع والألم. وفي جميع هذه الرؤى يتضح أن الحب ليس عاطفة عابرة، بل مسرحًا صاخباً لتناقضات الروح الإنسانية.

ولعل المجتمع بدوره يشارك في صياغة هذه الصورة فهو من يغذي فكرة الحب كأسطورة ملهمة عبر الشعر والقصص والأغاني لكنه أيضًا يفرض على العاشقين اختبارًا واقعيًا حين يضعهم في قلب الحياة اليومية. إن العشاق في التراث كثيرًا ما عاشوا في النص أكثر مما عاشوا في الواقع ولهذا ظلوا خالدين في الذاكرة بينما ذاب كثير ممن عاشوا حبًا عاديًا حياتياً معيشاً.

الحب نار تبقى مشتعلة ما دام الهواء يأتيها من بعيد فإذا اقتربت أكثر إما أن تتحول إلى دفء مستدام أو تحرق نفسها. الحقيقة أن الحب يظل في جوهره مزدوج الوجه فهو أسطورة تمنحنا الوهم الجميل وواقع يختبر قدرتنا على الصمود. الأسطورة تخلّد أسماء العشاق في الذاكرة والواقع يجعل من الحب علاقة قابلة للاستمرار. لعل السر في أنه يعيش بين الاثنين معًا بين القصيدة والخبز وبين الحلم واليقظة وبين ما نتخيله وما نعيشه. وهذا ما يفسِّر أن موضوعاته مثل الحب والكره لا تفقد حضورها في النقاشات الإنسانية أبدًا لأنها تمس جوهر الوجود البشري بكل تعقيداته وتذكِّرنا بأن ما بين النقيضين دائمًا مساحة تتغير وتتبدل بقدر ما تتغير قلوب البشر نفسها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد