: آخر تحديث

ماذا يحدث في بحر قزوين؟

3
3
3

صلاح الغول

تشهد منطقة بحر قزوين تحولات هيكلية غير ملاحظَة منذ بضع سنوات، تتضمن اصطفافات بين الدول الخمس المطلة على بحر قزوين (روسيا، إيران، أذربيجان، تركمانستان، وكازاخستان) فيما بين بعضها البعض، وبينها وبين دول إقليمية في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. وتُوصف هذه الاصطفافات بأنها متغيرة أو متحركة، تمنح الدول الصغيرة في الإقليم، وخاصةً أذربيجان وأرمينيا، نفوذاً متنامياً على حساب القوى التقليدية المهيمنة، ولاسيما روسيا وإيران، وتزيد درجة الاختراق الخارجي للإقليم. والواقع أنّ مردَّ هذه الديناميكية التي لا يتحدث عنها الكثير، وهذه الاصطفافات المعلنة وغير المعلنة التي تشهدها منطقة بحر قزوين هو التنافس الإقليمي والدولي على النفط والغاز، وعلى خطوط النقل والتجارة بين آسيا الوسطى وشرقي آسيا من جهة وأوروبا من جهةٍ أخرى، فضلاً عن صراع النفوذ بين الدول الإقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل) وتداعيات التنافس الجيوسياسي بين الدول الكبرى، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة والصين. يكفي أن نشير إلى عدة أمثلة تُدلل على هذه الديناميكية، وتؤشر إلى الاصطفافات التي تختبرها منطقة بحر قزوين. أول هذه الأمثلة هو اتهامات طهران للحكومة الآذرية بدعم الهجوم الإسرائيلي على إيران (13-24 يونيو 2025)، سواء كان دعماً استخبارياً أو لوجستياً. وبطبيعة الحال، فقد نفت باكو هذه الاتهامات جملةً وتفصيلاً. ولكن الاصطفاف الآذري-الإسرائيلي منذ التسعينات من القرن المنصرم لا يخفى على أحد. المثال الثاني يتعلق باستضافة أذربيجان اجتماعات أمنية بين مسؤولين من تركيا وإسرائيل حديثاً، بغية خفض التصعيد بين البلدين، والحؤول دون المواجهة المباشرة بينهما في سوريا. وغني عن الذكر الإشارة إلى التحالف بين تركيا وأذربيجان، فهما دولتان في أمةٍ «تركية» واحدة، والذي تجلى أكثر ما تجلى في الدعم العسكري والاستخباري التركي لأذربيجان في حربها الأخيرة ضد أرمينيا، حيث تمكنت القوات الآذرية من استعادة إقليم ناغورنو كاراباخ. وقد دفعت وساطة باكو بين أنقرة وتل أبيب إلى ادعاء بعض المراقبين بتبلور محور أذري-تركي-إسرائيلي، رغم أن نفس المراقبين أو غيرهم كانوا يتحدثون عن تبلور محور باكستاني-أذربيجاني-تركي مضاد لمحور إيران والهند وأرمينيا. المثال الثالث يتصل بالعلاقات المتغيرة بين روسيا من ناحية وكل من أذربيجان وأرمينيا من ناحيةٍ أخرى. فقد أقدمت الحكومة الأذرية على إلغاء زيارة مسؤول روسي رفيع المستوى بعد مقتل مواطنين أذربيجانيين في مداهمة للشرطة في مدينة يكاترينبورغ الروسية. وتنبع أهمية هذا الحادث من أنه أظهر ما يعتري العلاقات بين أذربيجان وروسيا من توترات بسبب دعم الأخيرة لأرمينيا، وأنه دلل على ضعف النفوذ الروسي في المنطقة، كما سنرى بعد قليل. ومن المفارقات أن أرمينيا، التي يبدو أنها غير مقتنعة بجدوى الدعم الروسي، تتجه حالياً نحو الغرب والولايات المتحدة والهند، ما يُضيف مزيداً من التعقيد في فهم الاصطفافات والتحالفات في المنطقة. المثال الرابع والأخطر يتعلق بالتفاعلات بشأن ممر زانغزور الذي تروج له أذربيجان، وتساندها تركيا وحلفاؤها الغربيون، والذي يبلغ طوله 40 كيلومتراً، ويربط أذربيجان بجيبها «ناخيتشفان» عبر الأراضي الأرمينية، ليوفر طريقاً للتجارة والنقل يربط بين دول آسيا الوسطى والصين من ناحية وتركيا ودول أوروبا الشرقية والغربية من ناحيةٍ أخرى، متجنباً أو متعمداً تجنب المرور بالأراضي الإيرانية أو الروسية. ومن المفارقات أن إيران تجد نفسها وحيدة في معارضة هذا الممر كونه يمثل تهديداً لمصالحها الاقتصادية والأمنية، بعد أن أبدت موسكو موافقتها على مشروع إنشاء الممر، بل وتحاول إقناع أرمينيا به. ومرد السلوك الروسي أنّ موسكو تبحث عن طرق بديلة للتجارة وتصدير النفط والغاز بسبب العقوبات الغربية عليها بعيد غزوها أوكرانيا عام 2022. والحديث عن ممر زانغزور يقودنا إلى التنافس بين دول المنطقة، ومن ورائها الدول الكبرى، على ممرات النقل الدولي من بطن آسيا وشرقها إلى أوروبا. فهناك «ممر الوسط»، الذي يربط آسيا الوسطى بأوروبا عبر بحر قزوين نحو أذربيجان، ثم يتجه إلى جورجيا وتركيا، وصولاً إلى الأسواق الأوروبية. وهذا الممر تدعمه الدول الغربية، بعكس ممر «الشمال- الجنوب»، الذي يهدف إلى ربط الهند بأوروبا وروسيا عبر أراضي أرمينيا وإيران. وهناك طريق الحرير الجديد، الذي تتبناه مبادرة الحزام والطريق الصينية، والذي يبدو أنه ليس لديه مشكلة في اتخاذ أي من الممرين سبيلاً إلى ربط آسيا بأوروبا. ومن الواضح أنّ أذربيجان هي الحلقة المحورية في هذه الممرات الدولية وغيرها، مثل خط الغاز الجنوبي الذي يحمل الغاز الآذري إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعطي الدولة الصغيرة مزيداً من الأهمية من النفوذ حتى في مواجهة الهيمنة الروسية والإيرانية التقليدية على منطقة بحر قزوين وجنوب القوقاز. وما يزيد من هذه الأهمية وذلك النفوذ أنّ دول آسيا الوسطى (كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان) باتت تضخ استثمارات هائلة في ممرات النقل التي تعبر أذربيجان إلى أوروبا، وأصبحت أكثر اندماجاً في الممر الأوسط أو ممر باكو-تبليسي-قارص (في تركيا). والخلاصة أنّ التغيرات الهيكلية والمكثفة ولعبة الأمم التي تتكشف في منطقة بحر قزوين وجنوبي القوقاز، وإن لم يتحدث عنها الكثير، سوف يكون لها أثرها في تطور هذه المنطقة، والعلاقات بين دولها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد