كان في المدينة مدرستان، بنات وأولاد، يفصل بينهما جدار واحد، كما كان بها جامع وكنيسة فقط. ولم يكن أحد يكترث بمذهب الآخر، أو أن هناك أصلاً مذاهب أخرى، فكل الشعائر كانت تؤدى إما في المسجد، وإما في الكنيسة، التي كان يؤمها الكلدان والآشوريون والأرمن والسريان والكاثوليك والأرثوذكس، فلم يكن هناك رجل دين لكل مذهب، إلا نادراً، ربما في الأعياد والمناسبات الخاصة جداً، وكانت نساء المسلمين، بعباءاتهن السوداء، يسبقن غيرهن إلى الكنيسة، والمشاركة في الصلوات والأفراح والأعياد، وكان الشيء ذاته يحدث مع المسيحيين في زياراتهم للأضرحة، وتقديم الذبائح والنذور.
على الرغم من بيوت المحطة، التي قاربت الـ500، فإن الجميع كان يتسوق من المخبز نفسه والبقال نفسه والقصاب نفسه، من دون أن يسمع، أو حتى يعرف أحدٌ معنى كلمة حلال أو حرام، كما كان هناك مستشفى واحد، وإن احتاج أحمد لدم فسيتبرع ميناس لمحمد، وعمر لعلي.. وهكذا.
كبرنا وتركنا المحطة، إما بحثاً عن الدراسة أو الوظيفة أو للالتحاق بزوج، وأينما ذهبنا حملنا معنا أخلاق K3 المميزة، التي تربينا عليها، ولم يكن غريباً أن جميع من هاجر حقق تقدماً، مالياً أو وظيفياً جيداً.
قرّر هرمز يوماً، وهو أحد أهالي الـ«كي ثري»، في غربته في أمريكا، تأسيس موقع على النت لمعرفة أخبار بقية أهله وأصدقائه، ونجح بجهد في لمّ شملهم، ووصلته أخبار الجميع تقريباً، وعناوينهم، وآلاف الصور العائلية، بعد فراق قارب ثلاثة عقود، وتبعت ذلك لقاءات مباشرة وجميلة، وأفراح وأعراس، جاءوا لها من مختلف الدول، وفي إحداها تم انتخاب «هرمز» مختاراً للمحطة، مدى الحياة.
* * *
هذه قصة حقيقية، ومحطة «كي ثري» K3 ما زالت موجودة، وتقع في محافظة الأنبار، ولكن الحال تغيّرت بها، عما كانت عليه، بعد أن خلت من سكانها «الكثيراويين» الأصليين.
يعلق الصديق والقارئ نزار ملاك، من كندا، على رسالة مانوشاك، قائلاً: تأثرت بها كثيراً، وأعرف «كي ثري»، فهي تقع بالقرب من الحدود السورية، ويمر عبرها نفط كركوك، القادم من شمال شرقي العراق، وهي من أولى آبار النفط المكتشفة، وكان للمليارير الأرمني كولبانكيان الفضل في توقيع الحكومة العراقية وشركات النفط الغربية على صفقة التنقيب عن البترول فيها، وان قصة مانوشاك ذكرته بعلاقته الطيبة مع صديق عمره فيليب بيداويد، فهما أكثر من إخوة منذ 60 عاماً، وكل منهما يفتخر بصداقته للآخر، ولم تنقطع علاقتهما يوماً، ولم يسئ أي منهما إلى الآخر، ومع هذا لم يسأله يوماً عن مذهبه، ولم يسأله فيليب عن مذهبه! ويتساءل: من السبب وراء تخريب تلك العلاقات الإنسانية بين البشر؟ فقلت له: ابحث عن المستفيد، فقد يكون دكتاتوراً، وبعدها، أو قبلها، رجل دين!
أحمد الصراف