محمد ناصر العطوان
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، كلمات للنبي صلى الله عليه وسلم، تقلب مفهوم الفقر رأساً على عقب: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فيُتَصَدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».
هذا الحديث ليس مجرد تصنيف للفقراء والمساكين، بل هو عدسة ثاقبة نرى من خلالها تشوهات مجتمعاتنا المعاصرة، ونستلهم منها نظريات اجتماعية إسلامية عميقة لبناء التماسك.
من هو المسكين اليوم في حياتنا المعاصرة؟
يتجلى الفقر الخفي «غير المرئي» في رب أسرة يعمل بوظائف متعددة أو بدوام كامل لكن دخله بالكاد يسد الرمق، ولا يظهر كمتسول تقليدي، رغم أنه غارق في الديون، يختار بين أن يشتري سيارة لابنته التي سوف تدرس في الجامعة وبين أن يدفع مصاريف للبيت لباقي الأبناء، يعيش على الهامش الاقتصادي دون أن يمد يده.
كذلك يتجلى في كبار السن المنعزلين والمسنين الذين استنفدوا مدخراتهم، يعيشون في عزلة اجتماعية، لا يلاحظهم جيرانهم أو أقاربهم، ولا يدرك المجتمع حاجتهم للدعم المالي أو العاطفي أو العملي.
كذلك يتجلى في أصحاب الديون المثقلة سواء الدراسة أو العلاج أو السكن، والمتمثل برب أسرة يسدد أقساطاً تأكل راتبه، يعيش في رفاهية ظاهرية (بيت، سيارة) لكنه على حافة الانهيار المالي، ويخجل من البوح بمعاناته.
كذلك يتجلى في المهمشين رقمياً في عصر الخدمات الإلكترونية والتحويلات الرقمية، من لا يملك حسابات بنكية أو مهارات رقمية، قد يُحرم من المساعدات الحكومية أو الخيرية المصممة لمن «يطوف» ويسأل، فيغدو غير مرئي في النظام.
هؤلاء ومثلهم كثير ممن فقدوا استقرارهم الاجتماعي والنفسي الفترة الأخيرة هم «الذين لا يجدون غنى يغنيهم» (كفاية مالية أو اجتماعية)، و«لا يُفْطَنُ لهم» (لا تُلاحظ حاجاتهم)، و«لا يقومون فيسألون الناس» (يحافظون على كرامتهم أو لا يعرفون كيف يطلبون). هم الفقراء الحقيقيون في مجتمع يخلط بين الفقر الظاهر والفقر المختبئ خلف ستار الحياء أو التعقيدات الحديثة.
يقدم الفكر الاجتماعي الإسلامي نظريات راسخة لبناء مجتمع متماسك، تكون الصدقة (بمعناها الواسع) حجر الزاوية فيها، تقوم على مبدأ «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (رواه مسلم). المجتمع كالجسد الواحد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد... الصدقة هنا ليست منّةً، بل هي حق مفروض (الزكاة) وتطوع (الصدقات) لسد حاجة العضو الضعيف، مما يحافظ على قوة وسلامة الكل. إغاثة «المسكين الحقيقي» غير المرئي هي تجسيد عملي لهذا التكافل، فهي تضمن عدم تخلف أي فرد عن ركب المجتمع.
يحذر القرآن من أن تكون الثروة «دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ» (سورة الحشر: 7)، لذلك فالزكاة والصدقات هي آليات إلهية لإعادة توزيع الثروة، وتقليص الفجوة بين الطبقات وسد حاجة «المسكين الحقيقي»، تمنع استفحال الفقر المدقع الذي يهدد الاستقرار الاجتماعي وينشر السخط، وإغاثة غير المرئي تطهير اجتماعي، لأنه يعالج جروحاً خفية قد تنتج أمراضاً اجتماعية خطيرة.
المجتمع الإسلامي هو الذي «يفطن» لحاجة أخيه قبل أن يذل نفسه بالسؤال، فيتصدق عليه طوعاً مع الحفاظ على كرامته، وهذا يبني الثقة والاحترام المتبادل.
تكمن أهمية الصدقة في تحقيق التماسك الاجتماعي وبناء جسور الثقة عندما يشعر الفقير غير المرئي بأن المجتمع «يفطن» له ويُعنَى به دون إذلال، فيزداد انتماؤه وثقته به.
ولا شك أن الصدقة تمنع التشرذم، كما أن إهمال الفئات الخفية يخلق هوة اجتماعية وشعوراً بالغبن، قد يؤدي إلى انحراف أو عنف أو انعزال. الصدقة المستنيرة تلحم هذه الصدوع، وتعزز الأمن الاجتماعي، فالمجتمع الخالي من الفقر المدقع واليأس والذل هو مجتمع أكثر أمناً واستقراراً للجميع.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم، هو نداء خالد لصحوة الضمير الفردي والاجتماعي. إنه يدفعنا في عصرنا المعقد إلى أن نكون أكثر يقظةً ووعياً، لا نكتفي بالاستجابة لمن يطرق الباب، بل نبحث بنشاط عن «المسكين الحقيقي» المختبئ في زوايا الإحصاءات والأرقام المنشورة، خلف أبواب البيوت، في مكاتب الموظفين المثقلين، وفي غرف العزلة.
تطبيق النظريات الاجتماعية الإسلامية في التكافل والتوازن وصيانة الكرامة، من خلال الزكاة الواجبة والصدقة التطوعية الواعية، ليس عملاً خيرياً فحسب، بل هو استثمار حقيقي في التماسك الاجتماعي والاستقرار والأمن الروحي والمادي للمجتمع بأسره، لأن بناء مجتمع «يفطن» لضعفائه قبل أن يضطروا لسؤال الناس هو بناء لمجتمع قوي متماسك، يحقق معنى العبودية لله والإحسان إلى خلقه، وهو جوهر التماسك الاجتماعي في الإسلام... وكل ما لا يراد وجه الله به... يضمحل... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.