: آخر تحديث

جلجامش.. والفكر الديني الغربي

5
4
4

عندما يتكلم العلم.. تنزوي الأسطورة جانبًا.

* * *

اكتشف عالم الآثار البريطاني السير أوستن لايارد ألواح ملحمة جلجامش حوالي عام 1849، خلال تنقيبه في مكتبة الملك الآشوري آشوربانيبال بمدينة نينوى الأثرية، وهي مجموعة ألواح طينية مكتوبة بالخط المسماري.

وفي سبعينيات القرن 19، قام الباحث في المتحف البريطاني جورج سميث بفك رموز الألواح، ليكتشف أنها تحتوي على نص أدبي ملحمي يُعد من أقدم النصوص الأدبية في العالم. وفي لقاء تاريخي دعا له سميث، وعُقد في لندن في 1872، ضم نخبة من العلماء والسياسيين ورجال الدين، أعلن عن فك رموز اللوح الحادي عشر من الملحمة، الذي يروي قصة الطوفان، فأحدث كلامه صدمة تاريخية ودينية، لاقى اهتمامًا عالميًا هائلاً، لتشابه أحداث الملحمة، التي كتبت قبل آلاف السنين، مع قصة نوح، التي وردت في التوراة، بعدها بآلاف السنين (!).

تُعتبر ملحمة جلجامش أقدم عمل أدبي ملحمي عرفه الإنسان، حيث دُوّنت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، وتروي قصة الملك جلجامش، ملك مدينة أوروك السومرية، ورحلته مع صديقه «انكيدو» في البحث عن سر الخلود، وتتناول الملحمة قضايا إنسانية عميقة، مثل الصداقة، والموت، ومعنى الحياة، وحدود قدرة الإنسان أمام الآلهة والمصير. وقد وجد العلماء تشابهًا كبيرًا بين نصوصها ونصوص العهد القديم، خاصة في قصة الطوفان، حيث يروي «أوتنابشتم» (شخصية الحكيم في الملحمة) كيف أمرته الآلهة ببناء سفينة لينجو من طوفان عظيم، وهو ما يتكرر بشكل شبه حرفي في سفر التكوين بقصة نوح. كما تضمنت الملحمة إشارات إلى خلق «انكيدو» من الطين، وهو ما يتشابه مع قصة خلق آدم في سفر التكوين، ونجد أيضًا فكرة الأفعى، التي تسرق نبتة الخلود، وغيرها من العناصر المشتركة.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن كَتَبة التوراة، أثناء فترة السبي البابلي (القرن السادس الـ16)، قد تأثروا بالأدب الرافديني الغني، خاصة أن هذه القصص والأساطير كانت معروفة ومتداولة في بابل، حيث عاش اليهود لفترة طويلة. ورغم أن المسيحية ظهرت بعد اليهودية، فإن العهد القديم يشكل جزءًا أساسيًا من الإيمان المسيحي، وبالتالي انتقلت هذه التأثيرات الأدبية والفكرية إلى الفكر المسيحي عبر النصوص التوراتية. فمواضيع مثل الخلود، وصراع الإنسان مع الموت، والبحث عن المعنى، والاعتراف بفناء البشرية، كلها موضوعات مركزية في ملحمة جلجامش، ووجدت لها صدى كبيراً لدى الغير، خاصة في ما يتعلق بمحدودية الإنسان وحاجته إلى الخلاص.

لقد شكلت ملحمة جلجامش نموذجًا مبكرًا للبطولة الإنسانية، حيث أصبح الإنسان في مركز الحدث، يفكر في مصيره، ويبحث عن معنى وجوده، وهو ما أثر لاحقًا في تطور الفكر الديني والفلسفي في المنطقة، ليس فقط على مستوى القصص الدينية، بل أيضًا في الرموز والمعاني الفلسفية المتعلقة بالشرط الإنساني.

دفع الاكتشاف سميث للذهاب إلى «نينوى»، بعد أن أعلنت صحيفة الديلي تلغراف البريطانية عن رصد مكافأة مالية لمن يعثر على بقية الألواح، ونجح في العثور على أجزاء إضافية منها، وقام بترجمة نص الملحمة للإنكليزية عام 1872، لكنه توفي في مدينة حلب عام 1876 عن 36 عامًا فقط.

ملحمة جلجامش ليست مجرد نص أدبي عظيم، بل وثيقة حضارية وفكرية، تعكس مرحلة مبكرة من تطور الوعي الديني والفلسفي للإنسان، وتُظهر الجذور المشتركة للعديد من القصص، التي شكلت لاحقًا جزءًا من وجدان البشرية.



أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد