نحن سكان الشرق الأوسط، خصوصاً الجيل الذي بلغ السبعين والثمانين وحتى التسعين، عشنا الشرق الأوسط القديم، ومن بقي منا على قيد الحياة، ويملك ذاكرة لا تزال تعمل، يتذكر فصول تاريخٍ تركزت فيه أحداثٌ كبرى على مدى زمني قصير؛ حيث حربان عالميتان، وعشرات الحروب من مختلف الأصناف، تحررية وأهلية وإقليمية، وبفعل ما عشناه تلقفنا بشوقٍ فكرة الشرق الأوسط الجديد، وعشنا مقدماته الواعدة، التي أيقظت في نفوسنا آمالاً كانت تبدو مستحيلة التحقيق، وهل هنالك ما هو أجمل من أن تحل القضية الكبرى بتسوية متهاودة لا يموت فيها الراعي ولا تفنى الغنم، وأن تصبح منطقتنا الممر الآمن للمشروع الصيني أو الهندي التجاري، الذي يفتح بواباتٍ واسعة بين الشرق والغرب، بما يتطلبه ذلك من هدوءٍ واستقرارٍ شاملين في منطقة لم تعرف الهدوء والاستقرار منذ بداية الخليقة حتى آخر حربٍ لم تضع أوزارها؟!
هكذا فكّرنا وتأملنا، حتى صارت جملة «الشرق الأوسط الجديد» الأكثر تداولاً في حياتنا، وصار الحديث عنه والسعي إليه نافذة أملٍ نطل منها على مستقبلٍ خالٍ من الحروب والاضطرابات والصراعات الفتّاكة، حتى تخيلناه درب خلاصٍ تَشَارَك العالم كله في رسمه وتعبيده وتهيئته للعمل.
في فجر يومٍ خريفي، وبضربة واحدة، عاد الشرق الأوسط القديم إلى هوايته المفضلة، وهي إنشاء الحروب، دون معرفة مساراتها وخلاصاتها، يُعرف كيف تبدأ ولا يُعرف كيف تتوقف، وهذا هو طابع حروب الشرق الأوسط منذ وُجِد على خريطة الكون؛ إذ لا حرب بدأت فيه وتوقفت، حتى حين كانت الحروب تؤدي إلى معاهداتٍ تنهي القتال على جبهاتها الأساسية، إلا أنها كانت تنتج صراعاتٍ وحروباً على جبهاتٍ أخرى، بما يهدد بالتهام معاهدات السلام واستبدال الحروب العسكرية التي توقفت على ساحاتها بتهديدٍ عميقٍ وقريبٍ لأمنها واستقرارها.كلمة جديد كما ثبت ذلك منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم تكن لتعني الأفضل كما نسجته الأمنيات، فإذا بنا نرى الجديد يرتسم على هيئة حروبٍ أشرس وأوسع، تلامس في القرن الحادي والعشرين حدود الاشتعال النووي، وكأن التاريخ يعيد نفسه حين حُسمت الحرب العالمية الثانية بالقنابل الذرية، مع فارق أن ما يجري في القرن الحادي والعشرين هو حربٌ كونية بالتجزئة، وقد تتحول بالجملة لو أخطأ صاروخٌ هدفه لينفجر في مفاعلٍ نووي وهذه المرة شرق أوسطي.
القطب النووي الثاني الذي مثَّله الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي، وتمثله الآن روسيا بوتين، يتحدث عن احتمالاتٍ متزايدة لحربٍ كونية تلتقي فيها المسارات والمصائر، وشرقنا الأوسط ليس بعيداً عنها؛ ففي هذا العصر، صارت غزة أقرب إلى أوكرانيا، وصارت تل أبيب في مرمى نيران طهران والعكس بالعكس، والمفاعلات النووية بما فيها من قنابل جاهزة أو قيد التجهيز، حين تُقصف، فإشعاعاتها القاتلة تلفّ الكون كله، ولنتذكر حكاية «تشيرنوبل»، حين تسرّبت من مفاعله السوفياتي جزيئياتٌ قليلة من الإشعاعات، فما الذي حدث؟ وأين النجاة من تسرُّب أكبر قد ينطلق من «فوردو» أو «بوشهر» أو غيرهما مما هو معروف أو مختفٍ؟
الشرق الأوسط الذي استعاد القديم فيه طبائعه وقوانينه الخاصة به، التي هي «اللاقوانين»، يبدو الآن على صورة كارثة متدحرجة، والمفاعل الأكثر إنتاجاً للخطر هو استسهال إسرائيل مثلاً لإبادة شعبٍ، مثلما تفعل في غزة، وإرسال طائراتها إلى أقصى مدى تصل إليه في مهمة إقامة «الشرق الأوسط الجديد»، وفق المنظور الإسرائيلي، وتردّ إيران بقصف حيفا؛ حيث أخطر منشأة فتّاكة تقع على شاطئ بحرها، لو تفجرت فلا أحد يعرف على أي مساحة تمتد دائرة الموت.
ومن جنوب لبنان الذي هو جمرُ تحت الرماد، إلى مضيق هرمز حيث الإغلاق المحتمل ولو بالتلغيم، ومن الطوابير المكتظة بالجوعى في غزة، وحتى سوريا المشرعة أبوابها على الخطر، والعراق الجار الأقرب للحرب الواقفة على حدوده وغيره وغيره ممن يلامسهم الخطر.
هذا هو حال الشرق الأوسط. وإذا كان ما حل به هو الجديد فلا غرابة في أن تمتلئ نفوس ساكنيه بحنين للقديم، اللهم إلا إذا وقعت معجزة تخلّص الجديد من براثن القديم، وليس لنا إلا أن ننتظر.