: آخر تحديث

كيف ينجح التضامن؟

4
3
4

في كل مرة تنفجر فيها أزمة في منطقتنا تعلو الأصوات بالشعارات الكبرى: التضامن ووحدة الصف. غير أن هذه الشعارات، رغم نياتها الطيبة، غالباً ما تُجلَب من صندوق يختزن إلى جوارها رواسب تفسد محتواها. فهي لا تطلب مجرد التعاون، بل تفترض التزاماً تلقائياً من دول متعددة القدرات والمصالح، بمواقف واحدة. ومن هنا يبدأ الفشل. افتراض خاطئ يقود إلى توقعات خاطئة ومطالب مستحيلة.

مظنة الوحدة السياسية وهْم يقود إلى خيبة. في حين أن الرغبة في التعاون أساس لبناء صلب قائم على المكسب المتبادل. على مدار التاريخ لم تتحقق وحدة إلا قسراً، بعد أن تبددت الجهود في العدوان والمقاومة، كما رأينا في الحربين العالميتين، وكانت النتيجة التباعد لا التقارب.

إذا تأملنا الأفكار التي تدعم هذه الدعوات «الوحدوية»، نجد أنها ترتكز على منظومتين قديمتين، لم تعد أيتهما تصلح لعالم اليوم:

المنظومة الأولى تنتمي إلى الدين السياسي، وتقوم على مفاهيم مثل الولاء والبراء، ودار الإسلام ودار الكفر. وهذه تصنيفات نشأت في عصور كانت فيها الحروب وسيلة معترفاً بها للتوسع والثروة، والدين هو العقيدة الاجتماعية اللاحمة لا المواطنة التعددية.

أما المنظومة الثانية، فهي التفكير الإمبراطوري وإرثه؛ إذ كان الإنسان يعرّف نفسه لا كمواطن في دولة وطنية، بل كجزء من كيان إمبراطوري: فارسي، أو روماني، أو عثماني. كانت العواصم المركزية تحكم الأطراف، دون اعتبار لاختلاف الجغرافيا ولا لخصوصية السكان. ورغم سقوط تلك الإمبراطوريات، فإن كثيراً من شعوب منطقتنا لا تزال تفكر بعقلية المواطن في إمبراطورية متخيلة، تنتظر أن تتوحد تحت راية زعيم موعود، أو «أمير مؤمنين» يبرز ليقود الأمة.

في غياب هذا القائد الأسطوري، تنوب عنه مؤسسات إنتاج القيم: تُصدر الأحكام، وتُوزّع الشهادات الوطنية والخيانة، وتحدد من هو «أصيل» ومن هو «دخيل». وهكذا، تتحول الدعوات للوحدة إلى أداة ضغط لا أداة تقارب، إلى وسيلة لفرض هوية واحدة على الجميع.

لكي ينجح التضامن يجب أن ننسى الوحدة ونثمّن التعاون. أن نعترف بالاختلاف والتنوع كقيمتين طبيعيتين تراهما العين في كل مفردات الحياة. ومن هنا نتفهم وجهات نظر الآخرين واختلاف أولوياتهم، ولا نتعامل مع هذا على أنه خيانة. بل نساعدهم ليساعدونا على الوصول إلى نقاط الْتقاء. مهم للغاية هذا الإعداد النفسي للفرد؛ لأنه يفتح أفق التحرك، ويجعل الرأي العام مرناً في قبول البدائل والحلول الوسط.

الدولة الوطنية حقيقة وواقع معاصر، فيها مواطنون متنوعو الدين والمذهب والتفكير. وتنوع الدول الوطنية في المحيط الواحد حقيقة هو الآخر. يجب أن ننتقل بهذين المفهومين من حيز الجدل الآيديولوجي والكلام النظري والألفاظ المنمقة، إلى حيز التفكير في معنَيهما على أرض الواقع، وفي تفاصيل الخطاب اليومي في التعليم والإعلام والدراما. من المهم أن نلتفت إلى القيم التي نرسخها في أفكارنا الشائعة. اكتفاء المثقفين بقراءة الكتب العالمية وتكرار مصطلحاتها دون إنزالها على خطابنا اليومي سمة انتقلت من أجيال مؤدلجة وجّهت الماكينة الثقافية. لربما ننادي بالدولة الوطنية في حين نغذي المواطن بأوهام إمبراطورية لا وجود لها، أو نروج لها تاريخاً ذهبياً وهمياً.

إن ترسيخ مثل تلك القيم هو ما يحرمنا من فرص التعاون الواقعي والتعايش المدني وتحقيق التنمية، ويغرقنا في الشحن الآيديولوجي. بدلاً من أن نخطب عن التنمية، ثم نحشو العقول بالكراهية، ونعلي من قيمة العداء، ونقوّض السياحة، ونخنق الاستثمار... لماذا لا نُعد مواطناً يحب الحياة، ويرى في الآخر شريكاً لا خصماً؟

لكي ينجح التضامن، يجب أن يُبنى على المصالح لا على الشعارات، على القيم المدنية لا على سرديات الفتح والهيمنة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد