: آخر تحديث

حسبة في طوكيو بالورقة والقلم

3
4
4

سليمان جودة

يشعر اليابانيون بأنهم متقدمون في كل شيء تقريباً، إلا في قدرتهم على مواجهة الأزمة التي تتفاقم عاماً بعد عام على أرضهم في قضية السكان.

ولا بد أن هذا يحزّ في نفوسهم كثيراً، لأنهم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أثبتوا براعة اقتصادية لم تكن متوقعة من أحد خارج حدود اليابان، وكشفوا عن مهارة عقلية كانت بمثابة المفاجأة التي أذهلت كل المراقبين، إلا موضوع السكان الذي لما صادفهم على طول الطريق بدا وكأنه قد أعجزهم تماماً! أظهر الإحصاء السكاني للعام الماضي أن عدد المواليد اليابانيين أقل من 700 ألف مولود في السنة نفسها، وتبين أن هذا لم يحدث منذ بدء الإحصاءات السكانية عندهم في نهايات القرن التاسع عشر ! .. ولا يزال الموضوع محيراً للسلطات في البلاد لأبعد حد، وقد وصل الخوف من أبعاد وتداعيات الانخفاض الذي يحدث للعام التاسع على التوالي إلى درجة أن شيجيرو إيشيبا، رئيس الحكومة، وصف الأمر بأنه حالة طوارئ صامتة!

وفي المقابل من هذا الانخفاض المخيف، اتضح أن عدد الموتى في السنة ذاتها وصل مليوناً و600 ألفاً، ما يعني أن الذين غادروا الدنيا من اليابانيين في السنة الماضية أكثر من ضعفي الذين جاؤوا إلى الحياة فيها.. وهذه مسألة لا بد أن تثير مخاوف الحكومة هناك، ولا فرق في ذلك بين الحكومة الماضية أو الحالية أو حتى المقبلة، لأن الانخفاض يتوالى بغير إشارة إلى إمكانية إيقافه عند حدود معينة. الانخفاض يتوالى ويستمر، يبدو وكأنه يمضي في منحدر من أعلى جبل إلى السفح بغير توقف وبغير إبطاء، والمشكلة أنه بلا تفسير مقنع أو معقول.

ونحن نعرف أن قضية تراجع أعداد المواليد، وازدياد أعداد كبار السن والشيوخ، قضية تكاد تكون عامة في أوروبا مثلاً .. وقد بلغت الكثير من الحدة في ألمانيا أيام المستشارة أنجيلا ميركل، التي لم تجد طريقة تواجه بها حدة الظاهرة سوى السماح باستقبال المزيد من المهاجرين، بل إنها ذهبت إلى حد إغراء المهاجرين بالذهاب لبلادها، وكانت وقت وجودها في دار المستشارية ترى أن هذا حل مؤقت إلى أن يكون هناك حل أساسي ودائم.

كانت ميركل تواجه هجوماً واسعاً في وسائل الإعلام بسبب سياستها في هذا الملف، وكانت تتغاضى عن الهجوم ولا تتوقف عنده، وكان هدفها أن تعالج المشكلة بدواء عابر وسريع، إلى أن يكون لها دواء آخر يتعامل معها من جذورها بطريقة مستديمة.

ولكن الظاهرة في اليابان تأخذ منحنى تصاعدياً لا يوجد تقريباً في أي دولة سواها، وهذا ما يقض مضاجع الحكومات المتتابعة في طوكيو، وهذا أيضاً ما يجعل تلك الحكومات تقف شبه عاجزة لا تدري ماذا عليها أن تفعل.

ولأن الانخفاض مستمر، وبشكل مقلق بالفعل، فإن انخفاضه المقلق قد أغرى السلطات المعنية بالقيام بعملية طرح وجمع لترى ماذا سيكون عليه الحال، لو أن هذا الانخفاض واصل مساره الحالي ولم يتوقف أو يُهدِّئ من اندفاعه.

وكانت النتيجة التي كشفت عنها عملية الطرح والجمع طريفة، بقدر ما كانت مزعجة للغاية لكل سلطة في اليابان تراقب ما يحدث وترصده ولا تصل فيه إلى حل. لقد كشفت عملية الجمع والطرح عن أن الانخفاض إذا مضى بمعدله الحالي، فإن حساب الورقة والقلم يقول أن آخر ياباني سيختفي من فوق ظهر الأرض بعد 800 سنة من الآن!

كان حساب الورقة والقلم هذا قد جرى قبل سنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة، وكان قد جرى الإعلان عنه في الإعلام، وكان موضع كلام كثير وقت الإعلان عنه، وكان الذين سمعوا به أو تابعوه من خارج اليابان قد أخذوه على سبيل الطُرفة، ولكنه بالنسبة لليابانيين كان بمثابة الحلم المزعج أو حتى بمثابة الكابوس.

وإلا .. فهل يُسعد الياباني في شيء أن يسمع أن بلاده يمكن أن تختفي من الخريطة، حتى ولو كان هذا سيحدث بعد ثمانية قرون؟ وقد جربت الحكومة كل الحلول تقريباً على مدى السنوات الماضية، وبما في ذلك جربت استحداث وزارة في الحكومة تكون وظيفتها إغراء اليابانيين بالزواج وبالإنجاب، ولكن من الواضح أن مثل هذه الوزارة لم تصل إلى شيء، فلا هي أقنعت الياباني العازف عن الزواج، ولا اليابانية المتزوجة بالإنجاب أو بمعنى أدق بالمزيد من الإنجاب.

ولكن إحصاء عام 2024 يبدو أنه سيدفع الحكومة إلى أن تنقل حالة الطوارئ التي يصفها رئيس الحكومة بأنها صامتة إلى حالة من الطوارئ معلنة، وسيكون على الحكومة أن تحتشد لهذه الحالة كما لم تحتشد من قبل. ولا بد أن الدول التي تعاني تُخمة في عدد السكان، تتمنى لو يتحلى السكان فيها بشيء من مسلك أو حكمة اليابانيين في هذا الطريق، ولا بد أيضاً أنها تستدرك سريعاً لتقول بينها وبين نفسها: «ولكن ليس إلى حد أن نختفي من الخريطة!».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد