ثقيلة هي الملفات التي يرزح تحتها لبنان: من محو آثار الحرب الإسرائيليّة الأخيرة المدمرة، إلى إطلاق إعادة إعمار المناطق والبيوت المتضررة (تشير بعض التقديرات إلى تدمير نحو 11 ألف وحدة سكنيّة)، إلى إلزام إسرائيل على الانسحاب من النقاط الخمس التي لا تزال تحتلها واحترام وقف إطلاق النار والقرار الدولي 1701، إلى ملف حصرية السلاح بيد الدولة، إلى إعادة بناء علاقات لبنان الخارجيّة، لا سيّما مع الدول العربية، إلى حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمالية...
وإذا كانت البلاد قد شهدت تقدّماً مهماً على الصعيد الدستوري تمثّل بانتخاب الرئيس جوزيف عون إلى منصب الرئاسة الأولى واختيار القاضي نواف سلام لمنصب الرئاسة الثالثة؛ ما أعاد الانتظام للعمل المؤسساتي، إلا أن مسيرة التعافي لا تزال طويلة وشاقة بالنظر إلى حجم التحديات التي فرضتها الحرب الأخيرة، وقد أفضت إلى إعادة خلط الأوراق والتأسيس لتشكيل موازين قوى جديدة في المنطقة برمتها.
أما لبنانيّاً، فإن الفرصة تبدو سانحة لكي يتقدّم مشروع الدولة على حساب كل الاعتبارات الأخرى، ليس بهدف تقليم أظافير هذا الطرف أو ذاك، إنما بغرض انتقال لبنان نحو حقبة جديدة طال انتظارها، يكون عنوانها الأساسي التفاف اللبنانيين حول مشروع وطني جامع يرتكز إلى احترام الدستور والمؤسسات والعدالة الاجتماعية والمساواة، بالإضافة إلى الحاجة إلى الانتقال نحو مرحلة جديدة من العصرنة وإطلاق الحكومة الإلكترونية والاستفادة من الذكاء الاصطناعي.
الظرف السياسي الراهن مواتٍ ليس للتشفي أو الانتقام، وكذلك ليس للإنكار أو إشاحة النظر عن المتغيرات الكبرى في المنطقة وكأنها لم تكن والإصرار على مقاربتها بمزيج من الكبرياء غير المبررة والعناد المتكرر؛ بل لإعادة رسم القواعد الداخلية وفق معطيات جديدة قوامها تعزيز اللحمة الوطنيّة في مواجهة التحديات المتنامية.
الانضواء تحت فيء الدولة وفي ظلالها هو المسار الوحيد المتاح للبنانيين جميعاً في الوقت الحالي، ليس فقط للتهدئة من روع الضغوط الدوليّة المتواصلة منذ لحظة انتهاء الحرب والتهديدات (لا، بل الانتهاكات الإسرائيليّة اليومية للسيادة اللبنانيّة)، بل أيضاً من أجل التأسيس للبنان المرتجى الذي انتظرته أجيال تلو أجيال من المواطنين ولم يصلوا فيه إلى حيث يطمحون.
وإذا كان مسار إعادة ترميم (وليس تطبيع) علاقات لبنان مع الدول العربية (لا سيما الخليجية منها) قد بدأ يسلك خطواته الأولى من خلال الزيارات المتلاحقة لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى تلك الدول، إلا أن عملية إعادة بناء الثقة تتطلب وقتاً وجهداً لبنانياً بالدرجة الأولى على أن يترافق مع خطوات إصلاحيّة فعليّة في المجالات التي صارت معروفة، بما يحقق أعلى درجات الشفافيّة ويفسح المجال أمام تدفق استثماري عربي - لبناني في حاجة ماسة إليه لكسر حلقة التدهور الاقتصادي والبدء التدريجي في خطوات التعافي.
لقد ولَّى الزمن الذي كان يُمنح فيه لبنان مساعدات سخيّة غير مشروطة من العالم العربي والغرب والصناديق العربية والدولية وهيئات التمويل العالمية، وحل الزمن الذي بات على لبنان أن يبرهن عن جديّة ومسؤوليّة وشفافيّة في مقاربة الملفات الاقتصادية (وغير الاقتصادية) لكي تُفتح له الأبواب مجدداً.
في الوقت الذي تتجادل فيه بعض القوى اللبنانيّة حول جنس الملائكة، تتقدّم دول أخرى في المحيط بخطوات انفتاحية ثابتة نحو المجتمع الدولي وهيئاته التمويلية وقد بدأت تحصد نتائج ملموسة في هذا الإطار رغم أنها تقع تحت عقوبات مفترضة، ولا يزال الانقسام الشديد يسود مجتمعها، وهذا يُسجّل إيجاباً لها ومبروك عليها. المسألة لا تتصل بغيرة سياسية، بقدر ما هي تُشكّل دافعاً حقيقياً للمباشرة بالخطوات المطلوبة على المستوى الإصلاحي، وهي باتت معروفة ومتكررة ولا تحتاج إلى شرح جديد.
لقد دلت التجارب المحدودة السابقة على أن الدولة اللبنانية عندما تحزم أمرها في مسألة ما فإنها تبرز بصفتها دولة حقاً شأنها شأن جميع الدول. وهذا الأمر يفترض أن ينسحب على كل المجالات، وبالتساوي، فلا تكون دولة كاملة الأوصاف هنا، ونصف دولة هناك. واللبنانيون يستحقون دولة كاملة الأوصاف.