جمال الكشكي
التاريخ لهذه المرحلة من عمر العالم، لا يشبه أي مرحلة سابقة، فكل شيء يتداخل، يختلط: النفوذ، التحالفات، التصادمات، الصعود، الانهيار، كل هذا لم يعد بنفس أختام الحسابات التقليدية، فقد باتت المختبرات الصغيرة هي أخطر مطابخ إدارة العالم، فالإدارة هنا لا تعتمد على الأسلحة العملاقة، أو المؤامرات الاستراتيجية الكبرى، بل يمكن أن تعيد ترتيب المعادلات والحسابات عبر شريحة، أو آلة صغيرة تشبه لعبة أطفال، لكن يمكن تحريكها وإدارتها وفق رؤية قد تقلب الموازين، أو تخالف التوقعات.
العالم التقليدي يتلاشى، الصورة الذهنية عن النظام الدولي باتت تتمزق .. نحن أمام أنقاض نظام، وظهور آخر يتشكل ليس من الفلسفة أو القانون الدولي، أو المنظمات، بل من عالم لا مرئي، عالم وافد من خرائط الذكاء الاصطناعي، ووادي السيليكون، عالم بلا مناعة، لا قبة حديدية ولا ذهبية، ولا غواصات عابرة لمحيطات تمنع الضربات المفاجئة التي تكمن في قبضة يد، أو ضغطة زر، قبضة يد مسيرة، تختبئ في لعبة أطفال. يذكرني هذا بما جرى فيما يسمى الربيع العربي الذي استخدم شعارات صغيرة عادية، لكنها كانت سامة، أعتقد أنها كانت تشبه المسيّرات الحالية التي أصبحت تتحكم في غرف السياسة العالمية.
يوم الأحد الماضي، الأول من يونيو الجاري، وصف بأنه اليوم الأقسى في تاريخ روسيا الاتحادية، لقد تلقت هجوماً مباغتاً بطائرات مسيرة قطعت، عبر عملية سرية، أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة كيلومتر من الحدود الأوكرانية - الروسية، ووصلت حتى شرق سيبيريا، وقصفت مطارات عسكرية، وطائرات عملاقة من أحدث الطائرات العالمية، منها تلك التي تحمل رؤوساً نووية، إضافة إلى مهاجمة غواصات في البحر.
هذه العملية أطلق عليها شبكة العنكبوت، وهي العملية التي تذكرنا أيضاً بعملية «البيجر» في بيروت، حين هاجمت إسرائيل قادة وأعضاء من حزب الله في لبنان عبر أجهزة البيجر، وأجهزة الاتصالات الأخرى، في حادثة شكلت لحظة شائكة من مسارات الحروب في عالم العنكبوت.
نحن نعلم أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، لذا جاءت هذه العملية لتكشف لنا أن العالم بالفعل يشبه بيت العنكبوت، وأن جدرانه تتصدع بشكل متلاحق، ومن ثم فإن الخطر القادم من المستقبل بات يهدد هذا العالم القديم، بل يُطلق جرس إنذار خوفاً من انهيار حضارته، وظهور أخرى لا تقف على قوانين دولية أو محلية. ثمة مجانين في هذا العالم يبحثون عما يسمى حملة المليار الذهبي، أي إنقاص البشر إلى حدود المليار من المليارات السبعة حالياً، فهؤلاء يخترعون وسائل وأدوات صغيرة، لكنها قاتلة، كأنهم يذكروننا بقدامى المحاربين الذين كانوا يسممون الآبار في أراضي أعدائهم.
مسيّرة صغيرة واحدة قد تشعل حريقاً في مدينة كبرى، أو قد تتسلل إلى مؤسسة فتدمرها، أو ربما تستهدف شخصيات مؤثرة في معادلات الصراعات الدائرة بين خرائط القوى والنفوذ .. هذا الطراز الحديث من الجنون المسير يحتاج إلى فرملة من عقلاء وحكماء قبل أن يندثر هذا العالم، فالسلاح النووي الذي كان يخيفنا، أصبح لا شيء أمام هذا الخطر الجديد الذي قد يباغت العالم في غرف نومه.
إن آلاف القوانين التي سنها العالم على مدى قرون باتت اليوم حبراً على ورق، وأن الأعراف التي ارتضاها النظام الدولي تهشمت بفعل هذا السلاح الصغير، كما أن استراتيجيات الدول التي كانت تبدو ثابتة منذ سنوات، صارت تتغير بتوقيت اللحظة، كما أن التكتيكات السريعة لهذه الدول لم تستطع اللحاق بسرعة هذه المسيّرات، كل شيء تغير، العالم القديم أصبح في قبضة شبكات العنكبوت.
العالم الحديث صار يفرض قوانينه وآلياته التي لا نعرفها بعد، عالم قادم من الصدمة، والمفاجأة وعدم اليقين الدائم، عالم حساباته تتغير بين لحظة وأخرى، لا حصانة لحدوده أو سماواته، بل اختلط كل شيء في لحظة واحدة، ويبدو أننا في حاجة إلى فلسفة سياسية واجتماعية جديدة لإنقاذ هذا العالم من براثن الجنون المسير، فلم تعد البشرية تحتمل الإقامة رهن التجارب القاتلة: كوفيد 19، المسيّرات العمياء، التكنولوجيا الذكية القاتلة، الأفكار السامة التي يتم تمريرها عبر ما يسمى الثورات الملونة، والتجارب المناخية المصنعة. إن الخوف كل الخوف، أن يستيقظ العالم ذات يوم ليجد نفسه في دائرة جهنمية لا فكاك منها.