: آخر تحديث

النظريّة الاقتصادية أساس الحيويّة السياسية

8
6
6

لم يكن التحدي الاقتصادي لدى بعض دول الإقليم إلا نتيجة للفشل في مسارَيْن؛ وهما قوّة الإدارة والإرادة، ومن ثمّ ضعف التشخيص للإشكال وعدم ابتكار الرؤية الحاذقة.

إن الدول التي وضعت خططها ورؤاها لنصف قرنٍ قادم هي الأقدر على تجاوز كل ذلك التحدي الاقتصادي المخيف. وما كانت رؤية الأمير محمد بن سلمان لمستقبل شعبه وبلاده إلا تعبيراً عن ضرورة مضارعة التاريخ والانتصار على تحديات المستقبل. أثبتت التجربة بعد بضع سنين أن هذا التفكير الرؤيوي هو الحامي والحارس من انفجارات المنطقة وأزماتها الكارثية... إنها أفكار الاقتصاد الحيويّة.

طوال القرن العشرين تغلَّبَ الخطاب الآيديولوجي على نظريات الاقتصاد وأفكار التنمية. يخطب بعض الزعماء، آنذاك، لساعاتٍ أمام شعوبهم عن الشرق والغرب من دون ذكر تغيير واقع دولهم المنهارةِ ولو بحرفٍ واحد. خطابات وحدويّة آيديولوجية جلفة لم تقدّم ولم تؤخر. دورة التاريخ التي لا تمزح بيّنت لكل الدول الحاليّة المضطربة أن رؤى دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات والبحرين، هي التي تستطيع أن تغيّر مسار الرحلة نحو برّ الأمان.

كان الفيلسوف ماكس فيبر يعدّ التطوّر الاقتصادي هو البوصلة لتغيير أي فكرة اجتماعية أو سياسية أو دينية. فالموضع الذي انطلق منه وإن كان ضمن علوم الاجتماع، غير أنه وضع الاقتصاد هو الأساس لأي تغيير فكري واجتماعي؛ فهو يرى أن الرأسمالية ليست مجرد التلهف للربح والفائدة، وإنما أيضاً السيادة عن طريق التنظير العقلي.

نعم ثمة انتماء بل عصب للرأسمالية بالتغيير الثقافي والاجتماعي بالعالم. وفيبر تمتد جذوره إلى أجداد لهم باع في الصناعة، وهم من البروتستانت. عاش في وسط بيت سياسي، فوالده مستشار في مجلس مدينة برلين، ثم غدا عضواً في مجلس النواب البروسي، وصولاً إلى عضويته بمجلس نواب ألمانيا (الرايشستاغ).

صحيح أنه تأثر بصراعات عصره، وتقلّب بين ماركس ونيتشه، ولكنه أسّس لاحقاً منهجاً في التحليل والنقد والفحص والمساءلة لم يسبق إليه، وهي الآلية «الفيبرية» التي اختص بها، على النحو الذي نراه جلياً في كتبه الكثيرة التي تُعدّ مرجعاً عالمياً في علم الاجتماع بشتى مجالاته، في التعليم والقانون، والعنف، والدولة، والسياسة، والاقتصاد، والموسيقى.

لماذا أستعيد ماكس فيبر؟!

لأن نظريته نشأت من عمق التوتير حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، وهو عنوان كتابه المهم الذي ينتهي في محصلته إلى أن ثمة توترات بين سلوك رجال الأعمال البروتستانتي، غير أن زهده وخلقه ودينه لا تعترض على أن يستخدم أمواله للاستمتاع الشخصي، بالإضافة إلى أن «الرسالة» تدعوه إلى مضاعفة أمواله، وخلاصة قوله إن الرأسمالية وليدة «الأخلاق» البروتستانتية ضمن الأدوار المنوطة في فحوى الرسالة البروتستانتية وأخلاقياتها ومحفزات الفاعل الاقتصادي من خلال رسالتها ضمن التاريخ الطويل.

كانت هذه مهمته بوصفه سوسيولوجياً. يقول: «إن السوسيولوجي مهمته أن يعثر داخل الأفعال الاجتماعية على ما هو عام من جهة، وعما هو خاص من جهة أخرى»، وذلك بالتعمق في رصد الروابط والعلاقات.

إن كل تفوّق وتقدّم اقتصادي يقود بالضرورة نحو تغيير اجتماعي وفكري، أزمة الإقليم منذ قرنٍ من الزمان أن الأفكار الآيديولوجية و«البعثية» والناصرية و«الإخوانية» هي ما كان يحرّك المؤسسات. لقد وضعوا العربة قبل الحصان، وهذا ينمّ عن ذروة الفقر الرؤيوي.

الخلاصة؛ إن الاقتصاد هو أساس كل شيء، وبوصلة نهوض أي دولةٍ لا يمكن أن تتم من دون جعل الاقتصاد هو الأساس، ومن ثمّ تأتي كل المجالات الأخرى بمنزلةِ لاحق. إن اللوذ بالأفكار القديمة، أو النظريات اليسارية، والشعارات التقدمية صار جزءاً من تاريخ المنطقة الأسود.

الآن من ينجح في الاقتصاد حتماً سوف يحقّق كل شيء، وسينتصر في كل شيء، وآية ذلك أن التجربة الحديثة في نصف القرن المنصرم لدول الخليج أثبتت تفوّقها بسبب هذه الفكرة التي كان بعض العرب ينتقدون الخليجيين فيها، وهم الآن يركضون نحو نماذجها، إنهم كما قال دريد بن الصمّة: «لم يستبينوا النصحَ إلا ضُحى الغدِ».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد