تتعدّد الأسباب، لكن النهايات، دائمًا وأبدًا، ما هي إلا حصيلة البدايات. فكلّما كانت البدايات مغلّفة بالنقص والإقلال، لا يُستند إليها ولا يُفتخر بها، كانت النهايات أشدّ وقعًا، وأكثرها خسارة.
فلا تظنّ أن تنازلك عن حقوقك سيُشار إليه بالبنان كتضحية، ولن تُرى كإنسانٍ يحترق لأجل الآخرين لينشر الدفء في حياتهم؛ بل ستُتّهم بقلة الوعي، وضبابية البصيرة.
ثمة أشياء لا تُقال، لكنها تثقل القلب، وتُدمي الروح. وجوهٌ مرّت، ومواقف استقرّت في الذاكرة كالوشم، لا تُمحى.
أصوات بعيدة، وصور باهتة، لكنها ما زالت تعرف الطريق إلى أعماقنا.
دائمًا ما نخزّن الوجع والحسرة، وكأنهما الوقود الذي ينير دروبنا المعتمة. غير أننا نحتاج إلى أن نُدرك أن الحياة لا تتباهى بمن استسلموا للوجع، بل بمن قاوموا، واتخذوا من التحدي منهجًا.
لكلٍّ منّا قصة انتهت، أو ما يزال يعاني من وطأتها.
فالوقت يمضي، والعالم لا ينتظر من يتأمّل خطواته. البعض يظن أن السير كافٍ، بينما الحقيقة أن السير دون التخلّي لا يقطع المسافة.
وهناك فرق بين من يتقدّم، ومن يتحرر، ربما يكون التعلّق فطريًا، نحاول من خلاله أن نُبقي الأشياء حيّة، حتى إن ماتت في الواقع. نُمسك بالذكريات، نُعيد تدوير الحوارات، ونبحث في التفاصيل عن ذريعة للبقاء.
لكن لا شيء يستهلك الروح أكثر من التمسّك بمن لا يعود. فبعض الأبواب لا تُفتح كسابق عهدها، وبعض الفصول وإن طال مكوثنا فيها، لا تُثمر ولا تُسمن من جوع.
التخطي لا يعني النسيان، ولا يعني البرود. التخطي هو أن تعترف بما حدث، بكل ما فيه، ثم تقرر أن لا تسمح له بأن يُعيد تشكيلك كل مرة. هو قرار، ومتى ما اتخذت هذا القرار، تبدأ ملامحك بالهدوء، وصوتك يستقر، ونظرتك للحياة تصبح أكثر نقاء. لأنك ببساطة، لم تعد تسير محمّلاً.. بل حرًا، متصالحًا مع ذاتك.
لا أحد يعبر الحياة دون ندوب، لكن التخطي هو أن لا ندع تلك الندوب تتحول إلى قيود وسلاسل. علينا أن نحملها كأوسمة على ما تجاوزناه، لا كأثقال نُعرقل بها سيرنا.
ليس التخطي نسيانًا فقط، بل فهمٌ عميقٌ لما كان، ووعدٌ صامت بأن القادم يستحق فرصة نقية.
ولأن النقاء لا يأتي من الفراغ، بل من التجاوز، فإن الذين تخطّوا بصدق، هم الأقدر على العيش بسلام.
إنهم لا يركضون إلى الخلف، لا يُعادون ذواتهم، بل يمشون بخطى هادئة نحو ما يستحقهم.
فالتخطي، في حقيقته.. نهجُ الأنقياء.
كونوا بخير.