في أحد تعليقاته العالقة بالذاكرة حول الحالة الراهنة لأوروبا، أعرب البابا الراحل فرنسيس عن أمله في أن تتحول «القارة العجوز» إلى مستشفى ميداني للضحايا من مختلف جنبات الأرض، في خضم عالم يموج بالاضطرابات، وتعصف به الحروب.
ويحمل هذا التعليق في طياته فكرة ضمنية، مفادها أن الشعور بكون المرء ضحية، سواء أكان حقيقاً أم متخيلاً، يمنح صاحبه مقعداً على مائدة الامتيازات، التي يجري تقديمها باعتبارها من حقوق الإنسان.
بعبارة أخرى، وضع هذا التصريح غير التقليدي البابا الكاثوليكي في صفّ أولئك الذين يحاولون تحويل مفهومهم الخاص لحقوق الإنسان إلى ديانة علمانية، غير مقيدة بالمفهوم التقليدي للواجب، الذي ترسخه الأديان التقليدية. الأسبوع الماضي، ناقش البرلمان الفرنسي ترسيخ «حقّ» جديد في قوانين البلاد؛ الحق في الموت.
جاء طرح هذه المسألة للمرة الأولى في أوروبا قبل نحو ثلاثين عاماً، ما دفع لأن تصبح سويسرا وهولندا أول ملاذين لممارسة هذا الحق في الموت.
في بداية الأمر، جرى طرح هذا «الحق» تحت مسمى «القتل الرحيم»، إلا أنه سرعان ما دعت الضرورة إلى تغيير المسمى بسبب كلمة «قتل» المثيرة للجدل. وبالفعل، جرى التخلي عن هذا المسمى لصالح عبارة «الانتحار بمساعدة الغير». ومع ذلك، قوبل المسمى الجديد بالرفض هو الآخر، لأن الانتحار غير قانوني في معظم الأنظمة القضائية الأوروبية. بعد ذلك، وصلنا إلى مصطلح «الموت بمساعدة الغير»، لكن الفعل «يموت» فعل لازم (غير متعدٍ)، وإضافة «بمساعدة» تجعله متعدياً، ما يوحي بالقتل المتعمد. وعليه، اختار اللغويون المهتمون بالصوابية السياسية، تعبير «الحق في الموت»، ليعود بذلك القرار إلى «الضحية» نفسه. ومع ذلك، لم يخلُ هذا الطرح كذلك من مشكلات، أولها الموت ليس «حقاً»، وإنما قدر سيعاينه كل كائن حي حين يحين أجله.
كما قال الشاعر الفارسي غزائي: «منذ لحظة ولادتنا، يبدأ موتنا!». إذاً المسألة ليست «الحق في الموت»، بل ممارسة هذا الحق. من جهتها، لم تتقبل النخب «اليقظوية» (Woke) الموقف اللاهوتي، الذي يجعل حق إنهاء الحياة حكراً على الخالق وحده. أما المصطلح الذي جرى اعتماده أخيراً، واستخدم في النقاش الفرنسي، الأسبوع الماضي، فكان «Euthanasia» أقرب ترجمة له «القتل الرحيم»، وهو مصطلح مخادع مشتق من أصل يوناني. ومع ذلك، يكشف النصّ أن ما يُقترح هو قتل أشخاص يُوصَفون بأنهم يعانون من أمراض عضال، ومن جديد، الضحايا الذين وقع عليهم «الاختيار الخاطئ».
بصورة ما، يعدّ «الحق في الموت» بمثابة امتداد حتمي لـ«الحق في الإجهاض»، الذي يُفترض كذلك أنه تجري ممارسته في إطار قيود صارمة، لكنها غالباً لا تُحترم. مثال؛ الأسبوع الماضي، أعلن «المكتب الإسلامي للديموغرافيا» في طهران أن عدد حالات الإجهاض في إيران وصل إلى نحو نصف مليون حالة سنوياً. على جانب آخر، أدان ممثلو جميع الديانات الكبرى تقريباً «القتل الرحيم»، باعتبار أن منح الحياة وأخذها من اختصاص الخالق، وليس مسألة تُترك للاختيار الفردي.
أما مؤيدو «القتل الرحيم»، فيرون أن إبقاء المرضى الميؤوس من شفائهم على قيد الحياة، خاصة أولئك الذين يعانون من آلام مبرحة، أمر يتنافى مع الإنسانية، علاوة على كونه هدراً اقتصادياً، فالموارد «المهدرة» في الحفاظ على حياة هؤلاء المرضى، يمكن توجيهها بشكل أفضل نحو علاج ورعاية آخرين ممن يعانون من أمراض قابلة للشفاء. وتُقدّر إحدى الدراسات أن «القتل الرحيم» قد يُحقق وفورات مالية تصل إلى مليار دولار سنوياً. ويُعدّ «القتل الرحيم» أحدث تجليات محاولات إخضاع جميع جوانب الحياة، لمنطق التحليل العلمي البارد، على أمل فرض سيطرة عقلانية صارمة على الوجود البشري. والمثير هنا أن «الحق في الموت» لا يصاحبه «الحق في الولادة». في الغالب، يدعم من يؤيدون «الحق في الموت» كذلك حق قتل الأجنة باسم «الإجهاض». كما أن مواقفهم يشوبها الغموض تجاه مسألة الأطفال الذين يولدون بأمراض غير قابلة للشفاء، ويُحكم عليهم بحياة مليئة بالمعاناة.
ولو قررنا «التخلّص» من جميع البشر الذين يعانون من أمراض أو حالات طبية مختلفة، فلن يتبقى على هذه الأرض سوى القليل للغاية من البشر. ولو سرنا مع موقفهم، وصولاً إلى نهايته العبثية، لكن المنطقية، فعلينا أن ننظّم نظاماً عالمياً جديداً لإنتاج «بشر مثاليين» فقط، لا يمرضون ولا يتألمون، الحلم (أو الكابوس) الذي راود جوزيف منغيله.
في الواقع، يعمل كثير من علماء الوراثة بالفعل في هذا الاتجاه، فالأبحاث الهادفة إلى «تصحيح» العيوب الوراثية في الحمض النووي البشري، تصبّ في هذا الهدف. كما أن برامج الكمبيوتر الجديدة التي تساعد الأفراد والأزواج على إيجاد «التطابق البيولوجي المثالي» تنتمي إلى الفكرة نفسها. ويبقى السؤال الأهم؛ من يقرر كل ذلك؟ الإجابة؛ العلماء والأطباء الذين لا يخضعون لأدنى محاسبة، ما يُعدّ وصفة مؤكدة لبناء أعتى أنواع الديكتاتوريات التي عرفها البشر على الإطلاق.
ويوجب القانون الجديد أن يتخذ المريض نفسه قرار الموت، لكن كيف يمكن لشخص يُفترض أنه يعاني من آلام لا تحتمل أن يكون في وضع يسمح له باتخاذ قرار مصيري يتعلق بالحياة والموت؟
أما الحُجة الاقتصادية التي تطرح لصالح «القتل الرحيم»، فهي أشد فظاعة، فلو طبّقنا مبدأ «الفاعلية من حيث التكلفة» على كل حياة بشرية، سرعان ما سيتجلى أمامنا عبث هذا المسار. هناك مئات الملايين من الناس في الدول الفقيرة لا يُسهمون بشيء يُذكر في الاقتصاد العالمي. وهناك عشرات الملايين من المتقاعدين في الدول الغنية، يُعدّون عبئاً على خزينة الدولة.
في الواقع، إن اتخاذ قرارات بشأن من يستحق الحياة ومن يجب أن يموت، بناءً على حسابات مالية، ليس أكثر من مثال صارخ على «عقل» جنّ جنونه.
من جهته، كان أرسطو، الملقب بأبي المنطق، مدركاً لمخاطر دفع العقلانية إلى مناطق مجهولة في الوجود الإنساني. كما حذّر من أن أي نظام يُبالغ في تطبيق مبدئه الأساسي مصيره الانهيار. وفي هذه الحالة، نجد أن الإفراط في العقلانية يقتل العقل نفسه. هناك مجالات في الحياة – قد تكون هي الأهم – لا يمكن، ولا يجب، أن تخضع للمنطق العلمي البارد، منها الحب، والصداقة، والذوق، والموهبة، وبالطبع الفرح والألم.
لماذا نقع في حب عينَين سوداوين معيّنتين دون سواهما؟
لماذا نشعر بعلاقة صداقة مميزة تجاه هذا الشخص بالذات، من بين مليارات البشر؟
لماذا نُحب صوت هذا المغني دون ذاك، أو شعر هذا الشاعر دون غيره؟ كيف يمكن أن نرسم ببراعة إلى حد ما، بينما نغني بأسوأ من صوت ضفدع؟ في الواقع، يجب ترك بعض مجالات الوجود الإنساني لِغموضها، كما كانت دوماً، في قلب الظلال الروحية العميقة للطبيعة البشرية. لا ينبغي لنا أن نفرض الحب، أو الصداقة، أو الموهبة، بقوة القانون، ولا ينبغي لنا كذلك أن نفرض الموت بالقانون.
وأخيراً، فإن «القتل الرحيم» مصطلح يوناني يعني «القتل بدافع الرحمة»، وقد استُخدم في الأصل لوصف توجيه الضربة القاضية للخيول المصابة بجروح بالغة، لكن لا يمكن معاملة الإنسان كما تُعامل الخيول، ولا ينبغي لطبيب بشري أن يتصرف كما لو كان صبي إسطبل!