تطرقت، عبر مقالات عدة، لتجربتي المصرفية، ليس من منطلق المباهاة، بل لما كان لها من أثر نفسي وثقافي ومادي وإنساني على حياتي. ولا أزال إلى اليوم أستفيد من عمق تلك التجربة التي بدأت مع منتصف الستينيات وانتهت في منتصف التسعينيات.
كنت في أواخر سِني المراهقة عندما عملت في البنك، وكانت وظيفتي الأكثر بساطة مقارنة بغيرها، وكان راتبي، بالتبعية، الأدنى. لكن سرعان ما تتالت الترقيات، وأصبحت في عام 1970 مديرًا لأكبر فروع البنك، وأصغر من تولى ذلك المنصب، وأتاح لي كل ذلك المشاركة في اجتماعات مجلس الإدارة، مع بقية زملائي الموظفين. وبسبب طبيعة العلاقة بين المجلس والإدارة العليا، كنا نتعرض كثيرًا للإحراج نتيجة رفض مطالباتنا بمنح تسهيلات مصرفية لعملاء البنك. وكنا نستغرب قراراتهم، مع شعورنا بأننا أكثر حرفية منهم في العمل المصرفي، ولكن الأيام تاليا كانت تثبت لنا خطأ بعض قراراتنا، وصواب رأي أعضاء المجلس، الذين كانوا، بالرغم من تواضع تعليمهم، أصحاب نظرة ثاقبة وخبرة طويلة في الحياة، لم يكن غالبيتنا يمتلكها.
استقلت من البنك بعدها، وتفرغت لأعمالي التجارية، لكن عدت له عضوًا في مجلس إدارته، وكان ذلك في بداية التسعينيات، وأصبحت في الجانب الآخر، الذي كنت أصفه، عندما كنت في الإدارة العليا، بعدم تقدير جهودنا أو تفهم آرائنا، وغالبًا دون إبداء الأسباب. وكنت أعتقد يومها بأنني لو كنت في مكان أعضاء المجلس لكانت قراراتي أكثر انسجامًا مع الإدارة، لكني اكتشفت منذ اليوم الأول في المجلس أن وضعي وتصرفاتي وقراراتي أصبحت، بصورة تلقائية، أكثر حذراً، وأقل استعدادا للانسياق مع مطالب الإدارة التي تريد تحقيق أقصى الأرباح، دون وضع الكثير من الاعتبارات في حسابها. فالصورة العامة، وأنا جالس على كرسي «عضو مجلس إدارة البنك» هي خلاف التي يراها الجالسون على كراسي كبار موظفي البنك، فروما تحت الشجرة ليست روما من سدة الحكم.
* * *
مع تتالي القرارات الحكومية المتعلقة بسحب جنسية فئات عدة، وما نتج عنها من مشاكل معقدة لهؤلاء وأهاليهم والمتعاملين معهم، تقارب في أحيان كثيرة المأساة، التي لم تخطر يوما على بال أي منهم، أصبح هؤلاء ومن يتعاطف معهم يشكون من تعقد أوضاعهم المعيشية، ويضعون كامل المسؤولية على عاتق مسؤولي الحكومة، غير مدركين ربما أن من أصدر تلك القرارات لا شك يرى الأمور من «منظور أكثر اتساعًا»، لا يشبه في شيء منظور الإنسان العادي خارج المسؤولية، والوضع هنا يشبه إلى حد كبير وضعي وموقفي في إدارة البنك تجاه مواقف أعضاء مجلس إدارة البنك، التي كانت تبدو لي ولزملائي شديدة الغرابة، خالية من المنطق، لكن عندما أصبحنا في الجانب الآخر، وأعضاء في المجلس، أصبح الأمر مختلفا، وهذا يشبه ما نقوم به من إصدار أحكام مسبقة، وجائرة غالبًا، فور سماعنا لوقوع جريمة بشعة ما، ثم يمر الوقت وتبرئ المحاكم، بمختلف درجاتها، من اعتبره الجميع متهمًا، لأن المحكمة رأت الأمور من زاويتها، وليس من زاوية من سمعوا بالجريمة. وقد حاولت في مقالي المعنون «سحب أسماء الشوارع»، الذي نشر قبل فترة قصيرة، أن أبين شيئًا من تلك الأسباب، لكن قلة انتبهت لذلك، وغالبًا بسبب عجزي في توضيح الصورة.
لست في معرض التقليل من حجم المشكلة، فالوضع ليس سهلا بأي مقياس، ولكن علينا جميعًا وضع ثقتنا في أولي الأمر منا، فهم، ولا أحد غيرهم، يرون ما لا يمكننا رؤيته، من زاويتنا، بالوضوح والدقة نفسهما، والشعور بالمسؤولية الوطنية، والوقت كفيل بتوضيح كل الملابسات.
أحمد الصراف