: آخر تحديث

الجهة الأخرى من النهر

9
6
6

ميسون الدخيل

الصدمة والخوف عاطفتان قويتان يمكن أن تؤثرا بشكل كبير في السلوك البشري، وغالبًا ما تدفعان الأفراد إلى قبول أفعال قد يرفضونها عادةً. ففي أوقات الأزمات، يمكن لأصحاب السلطة التلاعب بهذه المشاعر لتبرير إجراءات متطرفة، بما في ذلك العنف والنزوح، لأن التأثير النفسي للخوف يمكن أن يخلق شعورًا بالمحاصرة والاختناق، ما يدفع الناس إلى الالتفاف حول القادة الذين يعدونهم بالسلامة والأمن، حتى على حساب أرواح الآخرين؛ تاريخيًا، استغل القادة هذه الديناميكية لتحقيق أجنداتهم. عندما يتسلل الخوف إلى مجتمع ما، يمكن أن يؤدي إلى عقلية جماعية يُعطي فيها الأفراد الأولوية للسلامة الفورية على الاعتبارات الأخلاقية، وتُعد هذه الظاهرة خطيرة بشكل خاص لأنها قد تؤدي إلى تبرير فظائع قد تُعتبر غير مقبولة لولا ذلك. يمكن ذكر مثال تاريخي مؤثر في هذا التلاعب، قصة شعب «الأزتك» وملك «كولواكان»؛ مملكة تاريخية قديمة في المكسيك. أدرك كهنة الأزتك استياء شعبهم من رداءة الأرض التي مُنحوا للاستقرار فيها، وعندما طالبوهم بالرحيل إلى أرض ثانية رفضوا لتعبهم من كثرة الترحال. هنا وضع الكهنة خطة للتلاعب بالوضع لصالحهم، ونظموا حفلًا يهدف إلى تكريم ملك «كولواكان»، وقدموه على أنه احتفال شكر وامتنان وتعظيم، إلا أن نيتهم الحقيقية كانت أكثر قتامة؛ طلبوا من الملك أن تسهم ابنته في المسيرة، وفي يوم الاحتفال سلخ جلدها كاملًا وإلباسه لأحد الكهنة في واجهة المسيرة، وعندما رأى الملك ذاك المشهد المرعب هجم على «الإزتك» يريد إبادتهم، لكن الكهنة كانوا قد أعدوا قوارب ووجهوا شعبهم إليها للهروب، فلم يكن أمامهم سوى ذلك أو مواجهة الإبادة، بهذا الفعل الإجرامي المخادع يتضح كيف يمكن للقادة استغلال الاستجابات العاطفية لخدمة مصالحهم الخاصة، بغض النظر عن العواقب على أرواح الأبرياء. شهدنا عبر التاريخ صراعات عديدة صاغ فيها المعتدون أفعالهم على أنها دفاعية أو استباقية، ومن خلال خلق عقلية «نحن أم هم»، يمكنهم غرس شعور بالضرورة الحرجة مما يبرر العنف، كما تلعب الدعاية دورًا حاسمًا في هذه العملية، إذ يمكنها نزع الصفة الإنسانية عن الجماعة المستهدفة وتقديمها كأعداء يهددون وجود المعتدين؛ لنأخذ مثلًا التطهير العرقي الذي حدث في البلقان خلال تسعينيات القرن الماضي؛ استغل قادة المنطقة المظالم التاريخية والحماسة القومية لتبرير أفعالهم المروعة ضد جيرانهم، ومن خلال استحضار سردية الضحية والخيانة، تمكنوا من حشد أنصارهم، وإقناعهم بأن العنف ضروري للبقاء، وكثيرًا ما صُوّرت الفظائع المرتكبة خلال تلك الفترة بأنها أعمال وطنية، ما أدى إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ. وبينما نتأمل هذه الديناميكيات، من الضروري أن نبقى يقظين تجاه هذه الأساليب وهي تتكشف أمام أعيننا، فلقد أظهر لنا التاريخ العواقب الوخيمة للتقاعس والاكتفاء بدور المتفرج، وعلى سبيل المثال لا الحصر تعتبر مجاعة «هولودومور» في أوكرانيا بين عامي 1932 و1933 حدثًا مأساويًا، حيث عانى الملايين ولقوا حتفهم نتيجة سياسات التجويع المتعمد، برر المنفذون هذه الإجراءات على أنها ضرورية للسيطرة السياسية، مدّعين أنهم كانوا يكافحون تهديداتٍ مُفترضة للدولة، وبالمثل، نفذت الإبادة الجماعية للأرمن بين عامي 1915 و1916 وكان مبرر هذه الفظائع متأصلًا في الخوف من الخيانة والرغبة في بناء هوية وطنية متجانسة، ما يُظهر كيف يُمكن استغلال الخوف كسلاح لارتكاب أعمالٍ مروعة ضد الأبرياء. وكما حدث خلال الأحداث الهمجية السابقة حدث خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقف العالم متفرجًا بينما كان الملايين يبادون، وليس فقط اليهود بل من أديان وأعراق مختلفة، وليس فقط خلال الحرب، بل بعدها أيضًا كما حدث للجنود والنساء والأطفال الألمان بعد استسلام بلادهم، تمت عمليات الإبادة والقتل والتجويع والاغتصاب بشكل مُمنهج تحت ستار معالجة «القضية اليهودية» أو معالجة أسرى الحرب. قال «إيلي ويزل» المفكر المشهور والناجي من «الهولوكوست» والمدافع عن حقوق الإنسان، مقولته الشهيرة: إن «نقيض الحب ليس الكراهية، بل اللا مبالاة»، رغم أن هذا التحذير يكتسب أهمية خاصة اليوم، ونحن نواجه التلاعب بالخطابات في وسائل التواصل الاجتماعي والسرديات السائدة التي تحول الضحايا إلى معتدين من خلال نزع الصفة الإنسانية عنهم، إلا أن إنسانية «ويزل»، لم تكن شاملة بل أظهرت عنصريتها وقصورها عندما التقت بانتمائه الديني؛ لقد أثار انخراطه في قضايا مثيرة للجدل، كالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، انتقاداتٍ ونقاشاتٍ حول مسؤوليات الشخصيات العامة، حيث يرى الكثيرون أن أفعاله تتناقض مع رسالته الداعية إلى التعاطف والعدالة للجميع؛ هكذا هم، تقف العدالة عند حدودهم ! الصهاينة لديهم سبق وخبرة كبيرة في استخراج الدروس التي تصب في مصالحهم من التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم، لإدارة المعارك النفسية والتحكم في كل الجبهات من خلال سيطرتهم المتوغلة في جميع مفاتيح الحياة للشعوب الغربية من أجل حشد التأييد والدعم غير المشروط، ليس هذا فقط بل من مواطنيهم أيضًا، وأكبر مثال كيف استخدمت السردية التي دحضها إعلامهم المعارض مثل صحيفة «هآرتس»؛ سردية تشابه في وحشيتها قصة «سلخ جلد الأميرة» لنشر الذعر بالداخل والاستهجان في الخارج من أجل التغطية على الإبادة التي يمارسونها، لقد صدقهم القطيع وسارع ساستهم إلى ترديد عبارة «إسرائيل لها الحق بالدفاع عن نفسها»، كيف؟ لا يهم طالما أن من يقتلون ويحرقون ويفجرون ليسوا بشر أساسًا ! دروس الماضي واضحة؛ لا يسعنا تجاهل العلامات التحذيرية المبكرة للتلاعب وإثارة الخوف التي تابعناها في غزة، ونشهد يوميًا وقوع فظائع بعدما استغل الصهاينة ذلك الخوف لتبرير العنف ضد المدنيين، لذا الوعي والعمل ضروريان عالميًا؛ يجب أن نتحدى الخطابات التي تسعى إلى تقسيم العالم، وأن يحاسب الصهاينة وكل من يدعمهم. ولكي نعرف كيف نواجه هذه الآلة الهمجية المدمرة يجب أن نعود للأساس ونرى من أين وكيف تستنبط أفكارها الجهنمية. الوعي والدراسة والتحليل أول طرق المواجهة، ودون ذلك نبقى على الجهة الأخرى من النهر نراقب شعبًا يتعرض للإبادة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد