ميسون الدخيل
تأمل الفيلسوف الشاب الذي يعلن بثقة، «أن تكون أو لا تكون، تلك هي المسألة»، بينما يناقش أحدث صيحات «تيك توك». قد يتساءل المرء ما إذا كان شكسبير قد تخيل يومًا أن تأملاته الوجودية ستستخدم لتبرير تحدي رقص! ومع ذلك، نحن هنا، نعيش في زمن تُنتزع فيه الاقتباسات من حدائقها الأدبية وتُلقى حولها كالألعاب النارية في موكب، مُجردة من جذورها ومعانيها. في عالم حيث الحكمة مجرد نقرة بعيدة، أتقن شباب اليوم فن السطحية. لقد ولت الأيام التي كانت تتطلب فيها المعرفة قراءة عميقة وتفكيرًا نقديًا. بدلًا من ذلك، نعيش في عصر أصبح فيه الاقتباس من العظماء رياضة تنافسية، حتى لو كان السياق مفقودًا كما تضيع الجوارب في غياهب الغسالة. لحظة يجب ألّا ننسى وليمة الأخطاء الإملائية! اليوم، يستخرج الشباب هواتفهم، ويكتبون بسرعة، لكن بنتائج محبطة: مثلًا، كلمة «تلعن» بدلًا من «تعلن» و«يشتعل» بدلًا من «يشتغل»، و«بالتأكيد» غالبًا ما تُكتب «بالتأكييد» - وهو مصطلح يبدو أنه يحدد نهج جيل كامل تجاه اللغة: سدد وقارب! ثم تخيل نقاشًا حادًا حول تغير المناخ، حيث يصر أحد الشباب، أن «العالم في حالة احتراق، وعلينا أن نتصرف الآن!» ليُتبعه باقتباس يُنسب إلى ألبرت أينشتاين: «الخيال أهم من المعرفة»، رائع! إلا أنه، كما يتضح، يتم غالبًا نسب هذا الاقتباس بشكل خاطئ، لكن من يحتاج إلى الدقة عندما تكون في ذروة الحماس؟ في هذا العالم الجديد الجريء يجب أن تكون المعرفة بسيطة وواضحة وسهلة الهضم - مثل الوجبات السريعة للعقل! حقًا لماذا نقرأ نصًا فلسفيًا كثيفًا بينما يمكننا مشاهدة ملخص على يوتيوب لمدة خمس دقائق؟! لقد حُلت متعة التفكير العميق بمتعة مشاهدة فيديوهات «أفضل 10 اقتباسات من المفكرين المشهورين»، على أي حال من يحتاج إلى مواجهة نقد العقل الخالص لكانط عندما يمكنك اقتباسه خارج السياق لتبدو ذكيًا؟ وهنالك الباحث السطحي؛ وهو الطالب المزود بهاتفه الذكي، الذي يعلن وبكل فخر، «قرأت الكتاب كاملًا!» ليظهر لاحقًا أنه شاهَد سلسلة من مقاطع «تيك توك» تلخص المحتوى، نعم يستطيع سرد المصطلحات الرئيسية لكنه بالوقت نفسه يجد صعوبة في الانخراط في مناقشة ذات معنى. هذه هي النتيجة: مفكر جديد وجريء، لكن ما الثمن؟! على الطلاب أن يسعوا لخلق روابط بين الأفكار وفهم السياقات التي تأتي منها؛ وهذا يعني أنه يجب عليهم قراءة المرجع الأصلي بالكامل بدلًا من الاكتفاء بمقاطع أو آراء الآخرين، إن الفهم العميق يتطلب التفكير النقدي والمناقشة، ما يعزز قدرة الفرد على استخدام المعرفة بشكل فعال، فعندما يقرأ الطلاب النصوص الأصلية، يتمكنون من فهم المعاني الدقيقة والارتباطات الثقافية والتاريخية التي تحملها، مما يجعلهم أكثر قدرة على الانخراط في حوارات ذات مغزى. لقد شملت المناهج الدراسية السابقة طيفًا واسعًا من المواد الدراسية، ما شجع على التنمية الشاملة. أما اليوم، فهناك توجه نحو المعرفة المتخصصة، مما قد يحد أحيانًا من التعمق في مجالات متنوعة، كما يحد أيضًا دمج المواد الدراسية من اطّلاع الطلاب على نطاق واسع من المعرفة، وهو أمر بالغ الأهمية لتنمية أفراد متكاملين؛ فالمنهج الدراسي المتنوع يشجع على التفكير النقدي والإبداع، بينما تكثيف المواد الدراسية لجعلها أسهل استيعابًا، قد يؤدي إلى فهم سطحي للمواضيع المعقدة وغالبًا ما يُضحى بعمق المعرفة من أجل الإيجاز. نعم لقد سعت الدراسات التربوية للتركيز على بيئات التعلم المبتكرة كما أكدت على تفعيلها، إلا أنها يجب أن تُكمّل منهجًا دراسيًا قويًا يُقدّر كلًا من الاتساع والعمق في التعليم، كما أنه وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز التفكير النقدي، فلا يزال العديد من الطلاب يجدون صعوبة في تطبيق هذه المهارات بفعالية في سياقات العالم الحقيقي؛ بمعنى بدلًا من الاعتماد على معلومات سريعة وسطحية، ينبغي عليهم أن يأخذوا الوقت اللازم لاستكشاف الأفكار بشكل شامل، مما يساعدهم على تطوير مهارات التفكير النقدي وفهم أعمق للموضوعات المطروحة. بينما نتخبط بعيدًا في هذا البحر من السطحية، من الضروري أن ندرك تأثير ذلك على الأجيال القادمة، لقد أصبحت المعرفة عبارة عن سلسلة من العبارات القصيرة، خالية من العمق والدقة وأصبح فن التفكير النقدي، الذي كان يُحترم في الماضي، الآن قطعة أثرية، مظللة بضغط الاستهلاك الرقمي. إلى أين نحن ذاهبون؟ بتنا نقرأ اقتباسا من شكسبير وسط منافسة رقص على «تيك توك»! دعونا نترحم على أيام كانت النصيحة بـ«جمل» الذي تحول على أيدي أصحاب «سدد وقارب» إلى «حمل» وربما «عمل» أو «قمل» معشش في رؤوس الفصحاء الجدد! لنساعد جيل اليوم والغد ببدء البحث عن الحلول بأنفسنا. هذه الحلول مدفونة بين الأرفف التي تغشاها الغبار والأتربة. هل نحن جادون في سعينا نحو المعرفة، أم سننتظر الحلول تأتي من أولئك الذين يروجون لمقاطع مثل: «هذا موضوع خطير أريد أن أحدثكم عنه اليوم، لذا لا تنسوا أن تضغطوا على زر الإعجاب والمتابعة»؟ إن الوقت قد حان لنخرج من حالة التراخي ونستعيد شغف التعلم، إن المعرفة ليست مجرد معلومات سريعة تُستهلك، بل هي كنز يحتاج إلى جهد وعناية. فلنبدأ في البحث، في القراءة، وفي الفهم، حتى نتمكن من بناء مستقبل يليق بنا، ويضمن لأبنائنا جيلًا واعيًا قادرًا على التمييز بين الحقائق والأوهام، بعيدًا عن ضوضاء السطحية. إن لم نتحرك نحو التفكير النقدي، فقد نفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال! يجب أن نستعيد قدرتنا على التفكير بعمق، وأن نقدر المعرفة كشيء يتطلب الجهد والوقت، وليس مجرد معلومات سريعة ! فلنبدأ بالتفكير مرة أخرى، ولنُعطِ الأفكار قيمة أكبر من مجرد كونها أدوات ترفيهية توزع كوجبات «تيك أوي» على صفحات السوشال ميديا.سدد وقارب
مواضيع ذات صلة