يصف ترمب نفسه بالشخصية القوية، ولهذا ينجذب لشخصياتٍ قوية مثل جينبينغ وبوتين. ولكنَّه مختلف عنهما. هما ترعرعا داخل مؤسسات الحكم، وهو جاء من خارجها، هما عملا في الظل وهو نشأ تحت الأضواء. هما رجلا حكم وهو رجل مال، هما مؤمنان بالهرمية وهو مؤمن بالفوضوية، هما قليلا الكلام وهو لا يتوقف عن الكلام، هما هادئان وحذران وهو عبارة عن كتلة من العواطف المتفجرة، هما منضبطان ومؤمنان بتقاليد الدولة وقدرتها على تنفيذ أجنداتهما، وهو فوضوي يتصرف بطريقة فردية ومفاجئة حتى لأعضاء من إدارته، هما يفكران بطريقة استراتيجية واضحة وأهداف محددة.
ترمب يصعب على المحللين معرفة كيف يفكر، وما هي فعلاً العقيدة السياسية التي يؤمن بها. فهو يقول الأشياء ونقيضها، ويمتنع عن التدخل بشؤون العالم ويقصف الحوثيين لحماية التجارة العالمية، ويوبخ الحلفاء ويثني عليهم بعد ذلك، يهادن الأعداء ويهددهم بالجحيم، هاجم زيلينسكي في البيت الأبيض وامتدحه في الفاتيكان، يمتدح بوتين اليوم وينتقده في الغد.
متابعة تصريحات ترمب محيرة وتقود للخطأ في استنتاج ماذا يؤمن به، لأنه يقول أشياء لا يعنيها، وليس لديه مشروع حقيقي لتنفيذه (لنتذكر قصة الريفييرا في غزة).
لهذا أفضل طريقة لمعرفة ترمب هي من خلال طرح هذه الأسئلة؛ ما العاطفة التي تحرك ترمب؟ وما أكثر شيء يهمه؟ وما رؤية ترمب لأميركا ودورها في النظام الدولي؟
أكثر عاطفة تحرك ترمب هي الاحترام. ترمب يبحث عن الاحترام والاعتراف به رئيساً قوياً للولايات المتحدة، وهي عاطفة عرف كثير من القادة كيف يدغدغونها لديه ويكسبون صداقته ويوثّقون علاقتهم به. هذا ما فعله رئيس الوزراء البريطاني ستارمر الذي تعمد أن يوجه له دعوة الملك تشارلز أمام الكاميرات. علامة احترام كبيرة أمام الملايين. انشرحت أسارير وجه ترمب لها، وقبل الدعوة بامتنان. وهذا ما فعله بوتين عندما أهدى لمبعوثه ستيف ويتكوف لوحة لمحاولة اغتياله.
ما سر طلب ترمب للاحترام؟ لأنه لا يشعر بأنه تلقى الاحترام من النخبة الأميركية التي ناصبته العداء، ولم تعترف به رئيساً منذ اليوم الأول. المؤسسة أو الدولة العميقة أيضاً لم ترحب بترمب في المرة الأولى، ودخلت في صراع مرير معه وسعت للإطاحة به، ولهذا قرر تفكيكها في المرة الثانية. وسائل الإعلام بالنسبة له هي عدو الشعب. المؤسسات التعليمية والأكاديمية تحقن الطلاب بفيروس وتحولهم إلى جنود في خدمة «اليسار» وتيار «اليقظة». يرى ترمب أن المؤسسات متآكلة، وأتى برجال مثل ماسك من خارج المؤسسة لإصلاحها. كلها لا تقدم له فروض الولاء والطاعة، إذن عليه التخلص منها.
السؤال الثاني: ما أكثر شيء يهم ترمب؟ الشارع، والمقصود به شارعه المحافظ أو قاعدته الانتخابية. لفهم سلوك ترمب يجب وضع كل ما يقوله في هذا السياق. كل ما يقوله ويفعله يحمل هدفاً وحيداً وهو إرضاؤهم. الجدار العازل، والهجرة، والاقتصاد والتعريفات، والتعليم، واستعادة العظمة الأميركية، ومحاربة الصين والدول التي سرقت أميركا.
كل هذه القضايا يقوم بها ترمب لكسبهم. هل هو مقتنع بها تماماً؟ لا يهم فعلاً فهو شخصية براغماتية قادر على التظاهر بأي شيء. الادعاء بأنه رجل متدين ولم يدخل الإيمان قلبه والادعاء بأنه من عامة الشعب، وهو يعيش في قصر مذهب. إذا لم تفهم هذه بشخصية ترمب فلن تفهم أبداً لماذا يتصرف على هذا النحو. فعلى الرغم من العبثية والعشوائية في تصرفاته وتصريحاته، فإن ما يقوله موجه لجمهور واحد على الدوام.
وأتذكر أني حضرت خطاباً له في دافوس، القمة العالمية الاقتصادية. صعد على المسرح وألقى خطاباً لم يكن موجهاً لنا نحن الحضور، ولكن لأنصاره في آيوا أو ميشيغان. ترمب رجل لا يتعب ولا يفقد التركيز. لا يشرب الكحول، وليست لديه هوايات غير الغولف والبقاء في بقعة الضوء والكتابة على «تروث سوشيال». شخصية لا تعرف الاستسلام. رغم عمره الكبير كان يركض في الانتخابات الأخيرة من ولاية إلى أخرى ومن منصة إلى أخرى، حتى عاد إلى البيت الأبيض بشكل يشبه المعجزة.
هو مزيج من الشخصيات متنمرة، وعدائية، وطريفة، ولطيفة، وهو خليط من اللطف، والقسوة، والسخرية، والبساطة، وهو شخصية معقدة ومركبة، وهذه عادة شخصيات الزعماء ليست شخصيات بسيطة نفسياً وعاطفياً وتصعب قراءتها.
السؤال الثالث: كيف ينظر ترمب إلى دور أميركا في العالم؟ وما عقيدة ترمب في السياسة الخارجية؟
كل رئيس أميركي لديه عقيدة سياسية خارجية تشكل رؤيته وتلخص أهدافه. نيكسون: إنهاء حرب فيتنام، والانفتاح على الصين وإدخالها في النظام الدولي، وريغان: دعم السوق الحرة ومواجهة الاتحاد السوفياتي، وبوش الابن بناء الأمم ونشر الديمقراطية، وأوباما: الاتجاه نحو الصين وتخفيض الالتزام بالشرق الأوسط، وبايدن: التحالف القوي مع أوروبا وتعزيز الشراكة الغربية في مواجهة بوتين.
ولكن جميع الرؤساء على درجات متفاوتة حافظوا على تحالفات الولايات المتحدة التي شكلتها على مدار عقود، وعززت هيمنتها العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. وبسبب قوة هذا النظام الدولي الأميركي، تراجعت الحروب (لم نشهد حرباً عالمية منذ أكثر مما يقارب 80 عاماً)، وازدهرت التجارة العالمية وانتشرت الرأسمالية حتى في الدول التي ولدت منها الشيوعية. العالم الآن أفضل حالاً منه قبل 80 عاماً. في مثل هذا الوقت قبل 100 سنة، كانت توجد عشرات النزاعات بين الدول (يقول أحد المؤرخين إن هناك 150 نزاعاً في تلك المرحلة بين الدول).
بكل المقاييس، نعيش في عالم أفضل، ولكن ترمب لا يرى هذه الحال، ويعتقد أن أميركا تعرضت للنهب والسرقة على مدار عقود، وهو ينطلق من فكرة الحمائية التي يؤمن بها منذ شبابه، وكررها مراراً بسبب الشارع المحلي الذي يشكل تفكيره، حتى في السياسة الخارجية لا يفكر ترمب بصورة هذا العالم الليبرالي الذي تشكل على مدى عقود. كل شيء بالنسبة له سياسة داخلية، ولا يبدو أنه فعلاً يشغل تفكيره كثيراً، وأحياناً يعمل على العكس منه. وضع ضغوطاً على الحلفاء الأوروبيين بالتعريفات الجمركية (وأثار غضب جيرانه كندا والمكسيك) وتقارب أكثر مع بوتين، وهو الداعي بشكل صريح لتحطيم هذا النظام. الدعوة للاستيلاء على غرينلاند، وتحويل كندا إلى الولاية الـ51 معارضة لفكرة النظام الدولي، والمحافظة على سيادة الدول (ترمب يفكر بإرثه الشخصي وهو توسيع مساحة الولايات المتحدة... تفكير على طريقة القرن الـ19).
ترمب الخارج عن فكر المؤسسة والقادم من عالم مختلف لا يعترف بطريقة النخبة السياسية والفكرية التي شكلت السياسة الخارجية الأميركية ويفكر على الطريقة الحمائية القديمة. إذا كان هذا هو تفكيره الصحيح (ترمب يقول ويفعل أشياء متناقضة بالوقت ذاته)، فهذا يعني بداية التراجع لهذا النظام، وانهيار القوة الأميركية وصعود قوى جديدة. ولكن ترمب سيواجه معارضة قوية وشرسة من داخل المؤسسات لتحقيق هذه الرؤية من أجل الحصول على بعض الصفقات الجمركية في مقابل إضعاف مكانة أميركا ومجدها الذي بنته بالدم والعرق والدموع.