: آخر تحديث

دغبوس الزافر طار به نافر

3
3
2

علي بن محمد الرباعي

سمع (نافر) جدته تطلب من وراء الحجيرة الفاصلة بينها وبين جارتها (دسما) شحمة تكشّن بها على طبيخة دجر بتنصب بها لشيبتها، الذي ما يروح من الوادي إلا إذا مع قولة المذّن (الله أكبر)، فغافلها، وعمد إلى حلّة تفور بماء مغلي، داخله أرغفة مستديرة تلمع كما الجواهر، فالتقط أكبر دغبوس، دون عِلمه؛ أنه المُخصّص لجده (الزافر)، وفي ثلاث أربع لُقم تصرطها دون تهيّب من حرارتها.

تناولت الشحمة من الجارة واستدارت نحو العابر؛ وتلاقت مع (نافر) في السُدّة؛ ولاحظت أن في ثُمّه شيء، فمدّت كفها على حلقه، وحاولت استخراج الدغبوس الذي انفرم في غمضة عين، ولم يشف غليلها عراكها معه؛ فصبّت عليه من الدعاء، بأن يدخله ربي في بطنه سُمّاً، ويقلب ليلته همّاً وغمّاً.

ردّت أُمّه طريحة الفراش من ركن مُظلِم «دخيلتك يا عمه لا تدعين عليه، بارضّع بنتي وأقوم أسوّي لعمي بدله»، فقالت «لا ترضعينها وانتي محمومة»؛ فقامت وعجنت وطرحت دغبوساً أكبر حجماً، وعمّتها عينها على حلّة الدُّجر، ولسانها ما سكن في حلقها؛ تلوم زوجة ابنها، كونها لا تعلم إلى أين وجّه زوجها بشاحنته منذ شهر، وولدت وهو غايب، والزوجة المرتفعة حرارة جسمها تتحاشى الصدام مع عمتها، وتسايرها في نقدها لابنها سواق (التش تش) كما تطلق على شاحنته.

انتقلت بالعيار في آخر ساعة من عصريّة رمضان إلى (نافر) ولم تترك شاردة ولا واردة إلا تلهمتها من حفيدها الصِّلف، ومنها أنه خلط كحلها بفلفل أسود بغى يغدي بشوفها يكنّها ذلحين على شون، ودسّ فأر ميّت في مدارتها واروح بسحاريتها، وآخرتها يسطا على دغبوس جدّه، اللي ما يمزى لا من الله، ولا من خلقه، ولكي تحمّل أمه مسؤولية الصلافة، قالت بجرأة «الحُرّة إذا قرِب منها سرّاي الليل تسمّي بالرحمن».

كان البيت عبارة عن غرفة طوليّة، يطلقون عليها الشقيق، وموزّعة بطريقة تكاملية؛ فالركن الداخلي خصصوه طيلة الشتاء للبقرة، كي لا يعجى حسيلها في السفل تحتها من البرد، وبالجهة المقابلة كومة حطب عامي، يبيت فوقها الديك، وتحتها يبيّض الدجاج ليأمن القطط، وفي الوسط ملّة مُربّعة تقابلها في السقف كُترة لتصريف الداخنة، وثلاث ربايط حريّة، ينوي الزافر يهديها لربي يوم عيد الضحيّة، تجول في البيت من الباب إلى عند البقرة، ورصّ من الجريد يفصل عُليّة الابن الوحيد (أبو نافر) لا يزيد عن مترين في ثلاثة.

دخل الزافر من الباب، ومسّى على زوجة ابنه، ونشدها عن صحة مولودتها، وحلّ الكمر من وسطه، وعلّقه؛ وأنشب المقصب الذي كان يقصّب به مزرع الذرة، في وتد مغروز في الجدار، وتناول الإبريق، وخرج ليطهر ولقي حفيده (نافر) مدلدل أرجوله من طرف الجناح، ويشهق، نشده «وشبك يا المطيور تعصّر عيونك؟» فأجاب «جدتي خنقتني»، سأله «هويه تخنقك؟» فقال «أكلتْ حشيّة دغبوسك، وتبغي تحشّها فيّه»؛ فضحك الجدّ وقال «عساه فداك، جدتك صوامه قوامه، ما هيب دواجه يا فرخ الدجاجة، وبدل الدغبوس دغبوس، لكن منين لنا نافر بدل النافر».

طلب منه يلمّع قزازة الإتريك بالرماد والجُعال، ويشحنه، ويوشيه برويد، لا تنكث الفتيلة، ولا يعلّقه؛ وعاد من المسيد، وتحلّقوا حول السفرة يفطرون، ونافر يتارع، علّقت الجدة: يترع المتخمة (جرو رمضان) شنبه محمحم، وضرب بالدغبوس فوق التين، والتحق تحريقة السمن بالطحين والثفا ولو ما أخرجت المروة بلعها معها، تبسّم (الزافر) وضرب بكفه على ظهر حفيده، وقال «يكبر وتسرّك علومه»، فيما كانت (أمّه) تتغصّب بما بين يديها كي تدرّ حليباً لرضيعتها، برغم تعرق جسمها من الحُمّى.

وكعادة (نافر) في طرح الأسئلة، خصوصا عندما شاف الغنم تعلو بعضها؛ فقال «يا جدّ الطليان هذولا أخوان؟» ردّ عليه «الله الله»، فأضاف «من العود والناقة؟»، فسخّن الشايب، وعلّق «تحسبني أنا اللي روّحتهم على بعض؟» فقال «ليش يتراكبون وهم أخوان؟» أجابه «بهايم ما معها عقول»، فسأله «طيب.. ومن وين يولدون؟»، فأجابه «من تحت السُّبلة»؛ فنظر نافر إلى أمّه، وحدّ الجدّ النظرة فيه، واضعاً سبابته على شفتيه؛ عرف إنه بيطرح سؤالٍ على أمه، فقال (الزافر) كان من هروجك الشامزة، ورح لعمّك (طفران) قل بنصلّي العشا ونتروح، ونجيهم أنا وانت وجدتك نسمر معهم ساعة، ونتسمع في الرادي، فتساءل «وأُمي نخليها لحالها؟»، قال الجدّ «ما عندها إلا الرحمن تحسبه بيأكلها البعوي؟!».

حمل الإتريك على كتفه، والجدة وراه؛ محكمة قبضتها على حبات البُنّ التي صرّتها في طرف حوكتها، والجد وراهم، طوّلوا في سمرتهم؛ وعادوا للمنزل، وما وجدوا أم نافر ولا مولودتها، فأقسم نافر إنه سمع الكلاب تنبح لها شيء، وظنّوا أن الحُمّى داجت برأس (النفاس) وسرت ما تميّز الليل من النهار، حاولت الجدّة فيه يسكت، عشان تتحسس للصوت، فردّ عليها «كلها من تحت رأسك يا كهلة عثبر، تحبين المساري، خليتينا نفلح ونخلّي أُمّي لحالها، وين نغدي ندوّر لها في أنصاص الليالي، الله لا يذكرك إنتي ومساريك بالخير».

عمدته جدته وهو يعلّق الاتريك في حماطة الساحة، ودغولته في التربان، وزبل الدجاج، وانفجر خشمه بالدمّ، والجدّ قعد على خواشعه، مردداً «يا الله مقسوم خير في ليلة من ليالي الخير»، وشعر أن رأسه يحوم والدار تلفّ به؛ فهدأ نافر، وطلب منه ينسدح على ظهره لين يكفّ الدمّ، ووسّد له بعمامته؛ وعندما اقترب منه قال «كم علّمتك لكن ما تسمع؛ بعض الخلق، ما يسمّي لين يصطك ويدمّي».

وهم في شيل وحطّ، ونافر عازم يسري لأخواله، في قرية مجاورة، يتخبّر عن والدته؛ يمكن تكون عندهم، لمح فيه الشيبة وقال «يابو طيرة، نغدي نخرع أخوالك ونفضح أنفسنا، نقول ضيّعنا مرتنا؟»، كأنهم سمعوا صوت شاحنة مقبلة من طرف القرية، فمغصت الزافر وكهلته بطونهم؛ وش يقولون لولدهم العائد من سفر؛ عندما ينشدهم عن حرمته؟ وما به بطأ إلا وأبو نافر طالع من الدرجة بالكشاف، وبين يديه مولودته؛ ومن خلفه زوجته وهي بعافية كل عافية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد