: آخر تحديث

جدال ترمب مع زيلنسكي بداية نهاية التحالف الأوروبي الأمريكي

4
5
4

محمد سليمان العنقري

منذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي استشعرت أوروبا حينها ان طريقها نحو المستقبل لن يكون مع أميركا؛ فالمخاطر تغيرت والنظام العالمي الجديد سيولد على مبادئ وتوجهات مختلفة تماماً لن تلتقي فيه إحدى أكبر قوتين اقتصاديتين بل وعسكريتين في العالم، فسارعت دول الاتحاد الأوروبي بقيادة المانيا وفرنسا للاستعجال بتقديم مشروع الوحدة النقدية وإطلاق عملة اليورو عام 1999 والتي كان مقرراً البدء بها بعد هذا التاريخ أي في الالفية الجديدة، وهو ما ساهم بتعزيز التوافق حيال القضايا السياسية بشكل عام بين دول الاتحاد، وأصبحت اميركا ترى أن أوروبا منافس اقتصادي لها والمستفيد الأكبر تجارياً في العلاقة بينهم حيث يبلغ الفائض التجاري بينهما مئات المليارات سنوياً لصالح اوروبا، فيما تتحمل أميركا الحصة الأضخم من تكاليف حماية أمن اوروبا من خلال دورها الكبير في حلف الناتو.

وقد يكون الرئيس ترمب بحسه التجاري كونه رجل أعمال أكثر من عبر عن النظرة الجديدة من أميركا لأوروبا، وأن مسار العلاقة بينهما يجب أن يتغير وتعالج فيه مشكلة عجز بلاده مع اوروبا بالميزان التجاري إضافة لضرورة أن ترفع دول أوروبا من حجم إنفاقها على الدفاع والأمن لكي تتحمل الحصة الأكبر من تكاليف حلف الناتو، فقد استفادت أوروبا منه كثيراً دون أي تكاليف عالية بما أن أميركا ارتضت بدور رئيسي فيه لمصلحة كانت تراها ضرورية لمواجهة الاتحاد السوفيتي؛ فالصراع الايديولوجي بينهما كان كبيراً وتعلم حينها أميركا أن دول أوروبا حليفتها التقليدية لن تكون قادرة على مواجهة أي خطر يهددها من موسكو السوفيتية، لكن الظروف تبدلت وأميركا اليوم ليست بحاجة لتحمل كل تلك الأعباء، خصوصاً ان حجم دينها السيادي بات ضخما جدا يقارب 37 تريليون دولار، إضافة لعجوزات بالميزانية وبتجارتها مع العالم وتراجع دور الدولار كثيراً في حصته من التجارة الدولية والاحتياطيات العالمية، وكذلك في الاقراض بينما يتصاعد دور اليورو وينمو بشكل متسارع الطلب على اليوان الصيني؛ فالدولار هو « حجر الزاوية « في قوة أميركا الاقتصادية وركيزة أساسية بثبات اتحادها الفيدرالي.

ولذلك فإن أاميركا بدأت تتجه نحو التركيز على مصالحها دون أن تضع اوروبا في حساباتها كما السابق أو بنسبة أصبحت أقل بكثير من العقود الماضية، واختارت أن تسلك طريقاً جديداً تكون هي اللاعب الاكبر في تشكيل النظام الدولي الجديد، ولذلك بدأ يظهر هذا التعارض بالمصالح مع أوروبا من خلال التوجه الجديد لها في نظرتها لحرب روسيا على اوكرانيا، فبعد ان قدمت الدعم لكييف طيلة ثلاثة أعوام ترى أنه حان الوقت لاسترداد كل دولار دفعته بل والحصول على نصيب كبير من ثروة اوكرانيا التعدينية دعما لأمنها القومي في صناعات حساسة جدا ومهمة للغابة مقابل أن تعقد صفقة مع روسيا تنهي فيها هذه الحرب، بينما من الواضح أنها لن تقدم لاوكرانيا ضمانات امنية حتى لا تلتزم بحمايتها من روسيا إذا تجددت الحرب بينهما مستقبلا، ولا يوجد ضمانات أو أي وعد دقيق بانسحاب روسيا من اراضي اوكرانيا؛ أي ليس بالضرورة أن تعود خربطتها كما كانت قبل الحرب، وبذلك لو تمت الصفقة وتوقفت الحرب بحسب التفاهم بين واشنطن وموسكو فإن اوروبا ترى أنها مع أوكرانيا الخاسر الأكبر، والرابحان هما أميركا وروسيا.

ولذلك فإن المشادة الكلامية التاريخية بين ترمب وزيلنسكي يوم الجمعة لا تعد حدثاً عابراً وخلافاً محدود الاثر، والتي انتهت بعدم توقيع صفقة المعادن وطلب الرئيس الاميركي من رئيس اوكرانيا مغادرة البيت الابيض، والتي قد يراها الاوروبيون بأنها تمسهم، ورسالة لهم إضافة لكل التصريحات التي بينت حجم الفجوة بينهم؛ فالحقيقة أن ما حدث هو بداية اتساع الفجوة بين أوروبا الداعمة لأوكرانيا مع أميركا فقد صرح على الفور قادة أوروبا بأنهم مستمرون بدعم أوكرانيا ويمكنها الاعتماد عليهم أي أنهم أسقطوا ايضا من حساباتهم الدعم الامريكي، وبدأوا يدافعون عن مصالحهم ومستقبلهم بعيداً عن واشنطن مع إبقاء خيط رفيع للعلاقة معها، وذلك بعدم توجيه نقد مباشر لترمب على ما دار بينه وبين زيلنسكي وما انتهى له اللقاء من فشل ذريع؛ فاوروبا تحاول أن تضغط على واشنطن بأنها يمكن أن تفقدها الاستفادة من ثروة اوكرانيا التعدينية وتقليل أهمية أي تفاهم روسي أمريكي في حال لم تتوقف الحرب، فلن يكون لعلاقاتهم أي اثر مهم يخدم اميركا تحديداً في مواجهة الصين؛ لأن الهدف هو ابعاد موسكو عن بكين قدر المستطاع، وأي اتفاق بينهم لا ينهي الحرب بين روسيا واوكرانيا يصبح ضعيفاً ويخسر معه الرئيس ترمب رهانه الذي ردده دائماً بأنه قادر على إيقاف هذه الحرب في اليوم التالي لعودته للرئاسة وبذلك يفقد كثيراً من زخم عودته للبيت الأبيض عالمياً، إضافة الى ان اوروبا ستكون المستفيد الاكبر من معادن اوكرانيا؛ لأن الصفقة ستتحول لها وقد تضم اوكرانيا للاتحاد الاوروبي في خطوة سيكون لها دور مفصلي بتغيير مسار الحرب مع روسيا والتحالف القائم مع اميركا.

يمكن اعتبار المشادة بين ترمب وزيلنسكي هي مع اوروبا في واقع الحال وبداية صريحة لنهاية عقود من التحالف الاستراتيجي بينهم، واذا حدث وعاد الرئيس الاوكراني لعقد صفقة جديدة مع واشنطن خلال الأيام القادمة فهي لضرورات عسكرية ملحة لا يمكن تغطيتها بدون اميركا حالياً، ومناورة سياسية تفرضها الضرورات لكن ما لن يعود كما السابق هو تحالف أميركا مع اوروبا التي تسارع الخطوات للاستقلال الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي والتجاري عن أميركا، وقد تتحرك اكثر باتجاه الصين والشرق الأوسط وافريقبا والهند وكندا، فلديهم امكانيات كبيرة تساعدهم في ذلك وسيظهر معها القطبان الاوروبي و الصيني ليشكلا قوة هائلة لن تتمكن واشنطن من مواجهتها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.