عبداللطيف آل الشيخ
في عالمٍ تتصارع فيه الأهواء، وتتنازعه الرغبات، يظل الزهد قيمةً روحيةً وفكريةً تثير الدهشة والإعجاب.
لكن الزهد ليس مفهوماً واحداً ينطبق على الجميع بذات القياس؛ فهو يختلف باختلاف الظروف، والمواقف، والإمكانيات.
لا أُصدق الفقير الزاهد، لأنه ليس أمامه خيار إلا الزهد، ولكن أرفع قبعتي للغني الزاهد.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في هذا السياق هو الفرق بين زهد الفقير وزهد الغني، فالأول قد لا يكون أمامه خيارٌ سوى الزهد، بينما الثاني يختار الزهد عن قناعةٍ وإرادة، مما يجعل من زهده إيماءةً تستحق الإجلال.
الفقير الذي يعيش في ظلِّ محدودية الموارد، والذي يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة، قد يبدو زاهداً في مظاهر الدنيا، لكن هل يمكن أن نسمي هذا زهداً؟!
أم أنه مجرد رضوخ أمام واقعٍ قاسٍ لا يترك له خياراً سوى القناعة بما لديه؟!
الزهد الحقيقي لا ينبع من العجز، بل من القدرة على الاختيار، إنه قرارٌ واعٍ بالتخلي عن الملذات والمغريات، رغم توفرها.
وهنا تكمن الفكرة الأكثر إثارةً للتفكير: الزهد ليس مجرد انسحاب من العالم، بل هو انتصار على الذات.
أما الغني الزاهد، فهو ذلك الشخص الذي يمتلك المال والسلطة، ولكنه يختار أن يعيش حياةً بسيطةً متواضعة. إنه يرفض أن يكون عبداً للمادة، ويصر على أن يكون سيداً لرغباته.
هذا النوع من الزهد هو الأكثر ندرةً والأكثر إثارةً للإعجاب، لأنه ينبع من قوةٍ داخليةٍ هائلة، وقدرةٍ على التحكم في النفس.
الغني الزاهد لا يخشى الفقر، لأنه يعلم أن الثروة الحقيقية تكمن في الروح، لا في الجيب.
ولكن لماذا نرفع القبعة للغني الزاهد؟!
لأنه يقدم لنا درساً في التوازن، فهو يعيش في عالمٍ يقدّس المال، ويجعل منه معياراً للنجاح، ولكنه يرفض أن ينخدع بهذا الوهم.
إنه يُذكّرنا بأن السعادة لا تُشترى، وأن القناعة كنزٌ لا يفنى، والغني الزاهد هو الثائر الحقيقي في عالم الاستهلاك، لأنه يرفض أن يكون جزءاً من هذه الآلة الجشعة التي تلتهم القيم الإنسانية.
الزهد ليس مجرد اختيارٍ شخصي، بل هو فلسفة حياة، وهو لا يعني التخلي عن العالم، بل يعني العيش فيه بوعيٍ ومسؤولية، والفقير قد يكون زاهداً بفعل الضرورة، ولكن الغني الزاهد هو من يختار الزهد بفعل الإرادة.
ولذلك، نرفع له القبعة، لأنه يذكرنا بأن الثروة الحقيقية ليست في ما نملك، بل في ما نختار أن نكون.