لا شك أن أسباب نجاح ترامب وخسارة الديموقراطيين لها أكثر من سبب، ويعتمد ذلك على من يعلل الأسباب. فصحيفة وول ستريت عللت، في 6 نوفمبر، أن ذلك يرجع إلى أن الحزب الديموقراطي تحوّل إلى حزب يساري بتأثير من إليزابيث وارن، ونانسي بيلوسي. فالأجندة التي يطرحها الحزب أصبحت نخبوية ومتعارضة مع القيم الدينية، التي يحملها الشعب الأمريكي. لذا فإن فوز ترامب بالنسبة للصحيفة كان تصويتاً ضد الحزب الديموقراطي أكثر منه تصويتاً ضد هاريس. هذا وإن كان هذا سبباً مهماً، فإن هناك أسباباً أخرى. ولعلي أتقبّل أكثر السبب الذي طرحته مورين دوود Maureen Dowd في «النيويورك تايمز» في 8 نوفمبر، والتي ذكرت أن السبب الأهم هو أن كامالا هاريس دخلت التنافس الانتخابي متأخرة، لأن الرئيس بايدن تأخر في إعلانه عدم ترشيح نفسه، ذلك أنه لم يعلنه إلا في 21 يوليو. لذا فإن دوود تحمّل بايدن مسؤولية الفشل، الذي تعتقد أنه كان عليه أن يعلن عدم ترشحه لدورة ثانية منذ سنوات. فالرئيس المنتخب ترامب بدأ حملته الانتخابية منذ فشله في نوفمبر 2020. واستمر زخم الحملة لأربع سنوات. بينما كان لهاريس ثلاثة شهور فقط للإعداد ولإدارة حملتها الانتخابية. وما علينا إلا الانتقال إلى الاقتصاد كعامل حاسم لهزيمة هاريس.
هذا وعلى عكس ما كان يبشّر به بول كروغمان Krugman Paul - الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد والكينزي (نسبة إلى جون مينارد كينز) - من أن الاقتصاد كان ينمو وبصحة جيدة. وهذا صحيح من ناحية أن معدل البطالة %4.1، وهذا يقل عن المتوسط للخمسين سنة الأخيرة، الذي يبلغ %5.7. لكن مع أن الشعب الأمريكي لا يعاني من مشكلة بطالة، فإنه يعاني من مشكلة أجور منخفضة لوظائف معينة، وأجور عالية لوظائف أخرى. لذا فإن معدل الغلاء تتضرر منه شريحة اجتماعية معينة مكونة من العاملين، الذين لا يحملون شهادات جامعية. وأول مقال قرأته في «النيويورك تايمز» المتحمسة لهاريس، منذراً بأن ترامب سيفوز، كان بعنوان «إنه الغلاء يا غبي: لماذا تريد الطبقة العاملة أن يعود ترامب للرئاسة؟»، نشره آدم سيسيل Adam Seesel بتاريخ 24 أكتوبر الماضي. ولأجل تحضير مادة لكتابة Where The Money Is، الذي نشره عام 2023، قام بالسفر إلى مدن وبلدات صغيرة في وسط وغرب وجنوب الولايات المتحدة، قابل فيها رجالاً ونساء عاملين من ألوان وأجناس أمريكية مختلفة، لكنهم يشتركون فيما بينهم، كونهم لا يحملون شهادات جامعية، وأن لديهم وظائف، لكن دخولهم الشهرية لا تكفي لسد مستلزمات الحياة. سأذكر أحدها، والتي جعلتني أتعاطف مع صاحبها المدعو جورج ليملي George Lemley من ساوث بيند في ولاية أنديانا.
يقول جورج – غير المتزوج وعمره 45 سنة – أنه يعمل على خط الإنتاج في مصنع، لكن راتبه لا يكفي حاجته وحاجة أمه التي تعيش معه. لذا فإنه يضطر للتبرع بسائل البلازما من جسمه مرتين في الأسبوع مقابل 140 دولاراً لشركات الأدوية، موفراً لها مادة خام لصناعة أدويتها. ويشتكي جورج لآدم سيسيل أن سعر البيض تضاعف ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الماضية، وأن سعر رطل الهامبرغر أصبح 4 دولارات، بعد ان كان 2.5 دولار، أما الخبز فأردى أنواعه أصبح بدولارين، بعد أن كان بـ99 سنتاً.
ثم يلتقي بدانيل وليام، التي تعمل «كاشيرة» في محل، والتي تقول إنها ربما ستصوت لترامب مع أنها تكره عنصريته، خاصة أنها سوداء، لأن وضعها الاقتصادي كان أفضل نسبياً خلال فترة رئاسته. فهؤلاء الذين قابلهم سيسيل في أنديانا وأوريغون وأوهايو لا يهمهم ما حدث في 6 يناير 2021، من تحريض من قبل ترامب لمهاجمة مبنى الكونغرس، ولا يهمهم أذا كان ترامب يحترم أم يزدري المرأة، لكن يهمهم أن يدفعوا فواتيرهم مع نهاية كل شهر. فحسب سلّم عالم النفس الشهير إبراهام ماسلو، فإن الاهتمامات الأعلى بهرمه تبدأ بعد أن يسد الإنسان حاجاته الأولية من غذاء وسكن.
ومن الأمور الأخرى، التي عرفتها بعد فوز ترامب، أن أداءه السيئ في المناظرة مع هاريس لم يؤثر سلباً على قاعدته الانتخابية، وأداؤها المميز لم يحسّن وضعها كثيراً بين الناخبين المترددين في الاختيار. هذا ومع أن ترامب نال %44 من أصوات النساء، ونال %56 من أصوات الرجال، وهاريس عكسه، فإن أداءه بين النساء كان يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، لأنه لم يخضع لأنصاره المتشددين دينياً بمعارضة الحق في الإجهاض علناً، واختار أن يصمت عنه في خطابه الأخير، ومرر المعلومة بأن حق الإجهاض سيترك لحكومة الولاية، وليس إلى الحكومة الفدرالية.
لا شك أن هناك فرحاً لدى البعض، وهلعاً لدى البعض الآخر من فوز ترامب. وهناك الكثير ممن أدلوا بصوتهم لترامب يخجلون من إعلان ذلك، حيث إن ذلك يتعارض مع القيم الإنسانية، التي تعلموها في جامعاتهم المميزة. فقد صوتوا له مع إخفاء عنصرية باطنية، أو قد يكونون ضد عنصريته، لكنهم يتوقعون أن محفظتهم الاستثمارية ستزيد بفوز ترامب. هؤلاء لا يتقبلون قوله بأن المهاجرين يأكلون حيواناتكم الأليفة، ولا يتقبلون قول نائبه فانس واصفاً النساء اللاتي يقدن الحركة النسائية بأنهن قطط لا تلد.
ولعل أبلغ ما قرأته، محذّرة من الانزلاق إلى حكم سلطوي، كان ما نشرته ليزا ليرير Lisa Lerer في «النيويورك تايمز»، بتاريخ 7 نوفمبر، بعنوان: «أمريكا تؤجر رجلاً قوياً»، ذكرت فيه: «لم نغزُ، لكننا انزلقنا لحكم سلطوي». ولقد تمكن ترامب من ذلك بأن خدع الطبقة العاملة، بأن المهاجرين يأخذون وظائفكم. وخدعهم بأن ما سيفرضه من ضرائب على البضائع المستوردة سيوفر لهم وظائف، مع أن الدراسات الاقتصادية تثبت عدم صحة ذلك، بل إنه سيزيد تكاليف المعيشة على الطبقة العاملة. البعض منبسط الأسارير بفوز ترامب، لكن النخبة المتعلمة، خاصة أساتذة العلوم الاجتماعية والسياسية في الجامعات، محبطون بل يشعرون أنهم محطمون، فقد أخبرتني أستاذة في العلوم السياسية في جامعة مرموقة في كاليفورنيا we feel devastated، وعندما سألتها مازحاً: هل سيكون ترامب رئيساً لكاليفورنيا؟ أجابت مازحة بأنها ترشح نيوسوم حاكم كاليفورنيا قائداً لحركة المقاومة.
وبالطبع المقاومة السلمية، التي ستحد من سلطوية ترامب. وفعلاً فقد أعلن جافين نيوسوم Newsom Gavin وجي بي بريتزكر – حاكما ولايتا كاليفورنيا وإلينوي – أنهما دعيا مجالس النواب المحلية إلى العمل على الحد من تدخلات ترامب السلطوية. فقد صرح نيوسوم: «علينا أن ننمي قيم كاليفورنيا وحقوقنا الأساسية بوجه إدارة ترامب القادمة». أما حاكم إلينوي فقد صرح بأنه سيناقش في اجتماع مجلس النواب المحلي القادم «الأخطار الكامنة من ولاية ترامب القادمة».
هذا وفي النهاية، لا بد أن ألفت نظر القارئ إلى خبر جميل حول ما يخص إدارة ترامب القادمة، فقد أعلن اليوم – 8 نوفمبر – أن ترامب عيّن سوزان وايلز – رئيسة لموظفي البيت الأبيض – وهذه أول مرة يشغل هذا المنصب المهم من قبل امرأة. وسوزان في السابعة والخمسين، وهي لا تحب الأضواء، وعندها ابنتان وأحفاد. ويبدو أنها تفهمه، وقد تساعده على تواصل أفضل مع من يختلف معه بالرأي. وكان القياديون، الذين عملوا تحته، يشكون من أنه يعطي المهام نفسها لأكثر من شخص، وهذا كان من أسباب استقالاتهم من إدارته. لكن سوزي كانت تدير حملته منذ أربع سنين، وترقيتها إلى رئيسة المكتب البيضاوي قد تعطي إيجابية.