مكرم رباح
انفجرت أجهزة النداء والراديو CB بشكل عشوائي في جميع أنحاء لبنان، ما أسفر عن إصابة الآلاف بجروح خطيرة، بما في ذلك فقدان الأعين والأطراف، وفي بعض الحالات، تسببت بجروح مميتة.
هذا السيناريو الذي يذكر بأفلام التجسس الهوليوودية، وقع في لبنان وامتد إلى سورية المجاورة، حيث كانت أجهزة النداء بحوزة نحو ثلاثة آلاف عضو من «حزب الله».
هذا الفصل الدموي الذي استمر ليومين متتاليين، أسفر عن 37 حالة وفاة وأكثر من 2931 إصابة. فقد الكثيرون إحدى أو كلتا العينين، بينما فقد آخرون أصابعهم أو أيديهم بالكامل، وبعضهم تعرض لإصابات بالغة في الأجزاء الحساسة من الجسم، ما أصاب البلاد بأكملها بالصدمة ومهد بطريقة أو بأخرى إلى الحرب التي نشهد وقائعها بين «حزب الله» وإسرائيل، مؤدية لتهجير سكان الجنوب اللبناني.
سرعان ما تحول هذا الهجوم الإسرائيلي المزعوم على شبكة اتصالات «حزب الله» إلى خبر عالمي.
وانتشرت التكهنات حول كيفية تنفيذ الاستخبارات الإسرائيلية لهذه الخطة المعقدة، والتي ربما استغرقت شهوراً أو حتى سنوات من التخطيط والدقة في تنفيذها.
تمكن الإسرائيليون من إضافة مكونات متفجرة إلى الأجهزة المحمولة ومن خلال عملية متزامنة، فجّروا آلاف أجهزة النداء، وهي تقنية قديمة تعود إلى الثمانينيات والتي اعتقد «حزب الله» أنها منيعة أمام الاختراق الإسرائيلي.
عقب هذا الهجوم، اغتالت إسرائيل كامل قيادة لواء «الرضوان»، الوحدة القتالية النخبوية التابعة للحزب والمسماة على اسم عماد مغنية، وهي وحدة اكتسبت شهرتها في سورية وصراعات إقليمية أخرى.
بعد ظهر الجمعة، عقد إبراهيم عقيل، قائد «الرضوان» ورئيس عمليات «حزب الله» الجنوبية منذ بدء هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر، اجتماعاً مع قادة ميدانيين في نفق تحت قبو مبنى سكني في الضاحية الجنوبية المكتظة في بيروت.
وعلى الرغم من وجود روضة أطفال قريبة، اغتنم سلاح الجو الإسرائيلي الفرصة وقصف المبنيين المجاورين، ما أدى إلى مقتل عقيل وكامل قيادته وقادة كبار آخرين في الحزب وعشرة مدنيين، بعضهم لايزال تحت الأنقاض.
كان عقيل عضواً في المجلس العسكري والجهادي للحزب وكان أيضاً على قائمة المطلوبين لدى الولايات المتحدة بسبب تورطه في هجوم على ملحق السفارة الأميركية قبل 40 عاماً، في مصادفة مأسوية، حيث قتل في اليوم نفسه.
من خلال تنفيذ هذه الهجمات، تهدف إسرائيل بوضوح إلى استفزاز «حزب الله» نحو مواجهة مباشرة أكثر، قد تجبر الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على الوقوف إلى جانبها، وربما تؤدي إلى صراع مع إيران، وهو سيناريو يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يرحب به.
وفي حين ركزت وسائل الإعلام العالمية على الطبيعة المعقدة لهذا العمل التجسسي الذي تتهم به إسرائيل، إلا أن غالبيتها الساحقة غفلت عن الرسالة الكامنة وراء هجوم أجهزة النداء القاتل، وهي الرسالة التي يرفض «حزب الله» الاعتراف بها منذ عقدين.
تذكّر قضية أجهزة النداء والحرب التي تلتها أن الحروب لا تُخاض فقط بالأسلحة السوفياتية القديمة وتكنولوجيا الطائرات المسيرة «المدنية»، بل تتطلب مزيجاً شاملاً من الأصول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي المجالات التي يفتقر إليها الحزب، وكذلك حليفته إيران.
أولاً، يفتقر «حزب الله» إلى الرعاية الصحية والتدريب الطبي اللازم لإجلاء جرحاه بشكل صحيح، ناهيك عن إنشاء مستشفيات ميدانية، وهي أساسية لأي إستراتيجية قوة مقاتلة.
تُظهر مقاطع الفيديو التي تعرض انفجار أجهزة النداء في أيدي أعضاء الحزب نقصاً في التدريب وإجراءات الإجلاء، حيث شوهد المسعفون، وكثير منهم من خدمة الإسعاف التابعة للحزب، يركضون بحال من الفوضى.
ثانيا، بينما يعلن «حزب الله» امتلاكه أهدافاً إسرائيلية وقدرته على ضرب تل أبيب، فإنه يفتقر إلى البنية التحتية الطبية المناسبة لرعاية أفراده. نُقل معظم الجرحى إلى مستشفيات خارج مناطق سيطرة الحزب، بما في ذلك المركز الطبي التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، حيث عمل الأطباء والممرضون والطاقم بلا كلل لمدة ثلاثة أيام لعلاج الجرحى، ما يعكس جهود مئات المستشفيات في كل أنحاء لبنان.
امتلأت بنوك الدم بالمتبرعين، بمن فيهم معارضون صريحون للحزب، الذين دفعتهم إنسانيتهم لدعم مواطنيهم المحتاجين.
وفيما يقول الأمين العام للحزب حسن نصرالله إنه يمتلك بنوك أهداف والقدرة على تدمير إسرائيل، إلا أنه للمفارقة لا يملك بنك دم واحداً قادراً على إسعاف مقاتليه.
علاوة على ذلك، فإن الهجمات على أجهزة النداء واغتيال قيادة لواء «الرضوان» تؤكد فشل الحزب في استخدام بروتوكولات الأمن الأساسية.
إذا تمكنت إسرائيل من استهداف أجهزة النداء في اليوم الأول، فلماذا استمر الحزب في استخدام أجهزة الراديو CB، رغم معرفته بمدى الاختراق الإسرائيلي؟
وما هو أكثر إثارة للحيرة، لماذا اجتمع إبراهيم عقيل وقادته المخضرمون في غرفة واحدة مع علمهم الكامل بأن إسرائيل كانت تطاردهم بنشاط؟ ربما اعتقدوا أن الدروع البشرية من حولهم ستوفر لهم الحماية.
فرغم الادعاءات بوجود شبكة معقدة من الأنفاق والتحصينات، اختار عقيل، عقد مجلس الحرب في نفق أسفل روضة أطفال، بالإضافة لتخزين الصواريخ والمكونات العسكرية داخل مناطق مكتظة بالسكان تستهدفها إسرائيل الآن، ما يؤدي إلى مقتل الأشخاص أنفسهم الذين يدعي الحزب حمايتهم.
أكبر خطأ إستراتيجي أو الخطيئة الكبرى للحزب، ليست فقط في تورطه بمقتل أبرياء سوريين ولبنانيين، بل في عزل المجتمع الشيعي اللبناني عن محيطه العربي.
في عام 2006، بعد إعلانه الانتصار على إسرائيل، اعتقد نصرالله أن تلك ستكون آخر مواجهة مع العدو التقليدي.
منذ ذلك الحين، تحول الحزب إلى "قوة احتلال"، معززاً أجندة الحرس الثوري الإيراني التوسعية وقامعاً أي معارضة، بما في ذلك أصوات مثل الصديق لقمان سليم، الذي حذر من مخاطر استرضاء الحزب وتوقع ببساطة المأساة الحالية لانهيار لبنان.
اليوم، مع سقوط القنابل على المدنيين عبر الحدود وتهجيرهم من أرضهم، يجب أن يدرك اللبنانيون أنه بينما تستطيع إسرائيل تفكيك البنية التحتية العسكرية للحزب، فإنها لا تستطيع القضاء على الأيديولوجيا التي نمت خلال سنوات من الإفلات من العقاب والاسترضاء، وهي التي سمحت لإيران باحتجاز لبنان والمنطقة كرهينة، وجعلت القتل والموت أمراً طبيعياً.
«حزب الله» وجوقته من الممانعين عليهم الوصول إلى قناعة واحدة بأن اللبنانيين تبرعو بدمهم كموقف أخلاقي إنساني، وأن التضامن مع ضحايا النزوح والقتل الإسرائيلي لا يعني مبايعة لخيارات محور المفاوضات النووية مع إدارة بايدن والتي تعتبر الدماء العربية عملة المفاوضات في البازار المستمر.