علي حمادة
لم نعد بعيدين عن الحرب الواسعة بين إسرائيل و"حزب الله". هذا التعليق صدر عن أحد المسؤولين الرسميين الكبار في لبنان. والمسؤول قريب من مناخات الجهود الدبلوماسية التي عادت لتتكثف من جديد منذ 25 آب (أغسطس) تاريخ قيام "حزب الله" بـ"الانتقام" من إسرائيل رداً على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر في 30 تموز (أيلول) الماضي. فقد أتى الرد دون مستوى التهديدات التي روّج لها "حزب الله" على مدى 25 يوماً. كان لا بد من طي الملف بالحد الأدنى الممكن، فجرى التمهيد لرد "حزب الله" بـ340 صاروخاً بدائياً و6 مسيرات لم تصل إلى أهدافها المعلنة في خطب الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله الذي بدأت نبرته تنخفض تدريجياً منذ الخطاب الثاني بعد خطاب الغضب الذي أعقب مباشرة اغتيال فؤاد شكر، وصولاً إلى الخطاب الذي تلى الرد في 25 آب ليعلن انتهاء الرد، وليخفض من توقعات بيئته الحاضنة في لبنان، والبيئة الحاضنة للفصائل الإيرانية عبر المنطقة.
فالقضية لم تعد تتعلق بـ"تدمير إسرائيل في 7 دقائق ونصف دقيقة"، ولا بـ"إلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني"، بل بمنع إسرائيل من تحقيق انتصار. ومع ذلك فإن مراجعة سهلة بسيطة لأرشيف خطب نصر الله على مدى أعوام طويلة تكشف الفارق الهائل بين مضمون خطبه وخطب الفصائل أسوة بمواقف القيادات الإيرانية البارزة، وبين الحقيقة المُرّة التي تؤكد أن لا إيران ولا الفصائل قرنت الفعل بالقول. لا بل إن حرب غزة، وثم حرب لبنان واليمن وتحركات الفصائل وردود إيران على مئات الضربات في سوريا والعراق والداخل، انتهت هزيلة وباهتة.
صحيح أن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة "حماس" في 7 تشرين الأول صدمت إسرائيل، وهي حقيقة لا يمكن نكرانها، وصحيح أن "حماس" والفصائل في قطاع غزة تقاتل بشراسة، لكن الصحيح أيضاً أن "طوفان الأقصى" فتح الباب واسعاً أمام أخطر حكومة إسرائيلية على الإطلاق لسحق غزة وقتل وجرح ما يقارب 150 ألف مواطن فلسطيني، وتدمير كل معالم الحياة المدنية في مختلف أنحاء هذا القطاع المنكوب.
ومع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فشل في بدايات الحرب في فرض نزوح فلسطيني واسع من غزة نحو صحراء سيناء، فالموقف المصري الحاسم معطوفاً عليه موقف الأردن الحاسم كذلك بالنسبة إلى مشروع تهجير فلسطينيي الضفة الغربية أجهضا حلماً إسرائيلياً قديماً راود على وجه الخصوص اليمين المتطرف، ومنه الأحزاب المؤتلفة ضمن حكومة بنيامين نتنياهو، لكن هذا "الانتصار" المحدود لم يمنع من سحق قطاع غزة، والتضييق بشدة على الضفة الغربية تحت عنوان إسرائيلي رائج في أوساط الحكومة الحالية ألا وهو "حرب الاستقلال الثانية"، بعد حرب 1948 التي يطلق عليها الإسرائيليون "حرب الاستقلال"، فيما الفلسطينيون والعرب يسمونها "النكبة".
ومن اللافت أنه في الأيام الأولى لحرب غزة الحالية، سمعنا كلاماً صادراً من داخل أوساط النظام في إيران تقول إن عملية "طوفان الأقصى" أتت رداً على اغتيال قائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني الذي اغتالته الولايات المتحدة مع أحد قادة "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس في 3 كانون الثاني (يناير) 2020 في محيط مطار بغداد الدولي. ثم سمعنا مواقف من إعلاميين مأذون لهم في طهران أن هجوم حركة "حماس" في 7 تشرين الأول أتى ترجمة لرد إيراني على مشروع المعبر الاقتصادي الهندي – العربي - الأوروبي الذي أعلن عنه في دلهي في آب 2023، وهو يمر في إحدى محطاته بإسرائيل. كما جرى الترويج لسبب آخر ألا وهو إجهاض مشروع التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل والذي كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أشار في أيلول (سبتمبر) 2023 خلال مقابلة مع محطة "فوكس نيوز" الأميركية إلى إمكان حصوله، لكن ضمن ضوابط وشروط سعودية ليس أقلها حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
كل هذه الإشارات أوضحت طبيعة الحرب التي تدور اليوم على أرض الشرق الأوسط. نقطتها المحورية هي قطاع غزة، وقريباً قد تمتد لينضم لبنان إلى الدائرة المحورية. بمعنى أن لبنان بات مرشحاً ليصبح ساحة الحرب التالية بعد غزة. وثمة من يعتبر أن التحذير من الحرب الواسعة لا ينطبق على واقع الحال. فالحرب ليست حرباً شاملة بلا سقوف، بل هي حرب مفتوحة بأفقها الزمني. تصوروا أننا سنكمل سنة كاملة من الحرب بعد أقل من أربعة أسابيع. هذا واقع لا سابق له في المنطقة. لم يسبق أن اشتعلت حرب لمدة عام كامل. حتى حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل التي دامت ست سنوات لم ترق إلى مصاف حرب دموية وتدميرية كالتي يشهدها قطاع غزة المنكوب. أما بخصوص لبنان فالصورة متحركة للغاية. بدأت حرب "الإسناد" كما يصفها "حزب الله" بقواعد اشتباك منضبطة، حاول فيها الحزب نيابة عن محور "وحدة الساحات" أن يقلق راحة إسرائيل المنقضة على غزة من دون أن يغامر بالتدحرج نحو حرب مفتوحة. هذا ما حصل بين 8 تشرين الأول 2023 ومطلع العام الحالي. لكن ابتداءً من شهر شباط (فبراير) 2024 تغير الوضع تزامناً مع فشل المساعي الدبلوماسية الأميركية والفرنسية لإقناع "حزب الله" بوقف إطلاق النار، فبدأت إسرائيل ولوج مسار تصعيدي خطير. توسعت الضربات، وتعمقت، وازدادت عنفاً على مستويات كافة، إلى أن بلغت في 30 تموز الماضي مستوى خطراً للغاية مع اغتيال فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية من بيروت، ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في مجمع تابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني في قلب طهران. وكان من الملاحظ أن الضربتين جاءتا في أعقاب عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من واشنطن حيث ألقى خطاباً في الكونغرس والتقى كلاً من الرئيس جو بايدن ونائبته وخليفته المرشحة للرئاسة كامالا هاريس، وأيضاً المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب. وعلى رغم أن فشل رد "حزب الله" وتهرب إيران من الرد حالا دون اشتعال حرب واسعة بينهما وبين إسرائيل، فإن ما حصل عاكس معظم التوقعات. ففشل رد الحزب وامتناع إيران عنه ضاعفا من خطورة الموقف، إن في الضفة الغربية التي شهدت انطلاق حملة أمنية واسعة، أو في لبنان حيث لم يتوقف الإسرائيليون عن توسيع نطاق الضربات وعنفها في الجنوب، إذ بدا في الآونة الأخيرة أن الجيش الإسرائيلي يعمل على تنفيذ عملية تدمير منهجية لمناطق جديدة في الجنوب اللبناني، وتهجير أعداد إضافية من المواطنين الذين قدرتهم أجهزة الدولة اللبنانية بحوالي 140 ألف نازح، فيما ارتفعت نسبة المربعات السكنية المدمرة، إما كلياً أو جزئياً بأكثر من 25 في المئة عن الفترة التي سبقت شهر آب الماضي. أكثر من ذلك، لم يعد مفاجئاً أن تستهدف إسرائيل مستودعات أسلحة وذخائر ومنصات صاروخية في أنحاء واسعة من الجنوب، وأن تستكمل نهج الاغتيالات في مناطق بعيدة عن خطوط التماس المباشرة.
ومن الواضح تماماً أن الجهود الدولية لمنع نشوب حرب إسرائيلية على "حزب الله" في لبنان تراجعت، تاركة الطرفين في مواجهة بعضهما بعضاً. ولا نفشي بالضرورة سراً إن قلنا إن أوساطاً مقربة جداً من "حزب الله" بدأت تعترف بأن احتمالات الحرب واقعية جداً، وبأن الحزب يقيّم المرحلة على أنها قد تشهد نشوب حرب واسعة في لبنان قبل نهاية الشهر الحالي. ففي ما مضى كان مجرد الحديث في الإعلام عن أن الحرب قد تنشب يواجهه "حزب الله" بحملات تخوين من جانب المستويين السياسي والإعلامي، وبواسطة جيشه الإلكتروني. اليوم تغيرت اللهجة نوعاً ما وبدأ إعلام "حزب الله" بنشر سيناريوات حرب إسرائيلية في لبنان وسوريا معاً.
في مطلق الأحوال ما عاد من الممكن أن يختبئ "حزب الله" خلف شعارات "الإسناد" و"التحرير" ليخفي أزمته الناجمة عن التورط في حرب قد تتحول إلى حرب بقاء، أكلت وستأكل جانباً كبيراً من رصيده العسكري والمعنوي. لكنها في نهاية المطاف حرب حقيقية قد تطول وتطول...