د. محمد النغيمش
لم أتوقع أن يعتذر منظمو حفل افتتاح الألعاب الأولمبية المنعقدة في باريس 2024، بسبب لوحة "العشاء الأخير" لليوناردو دافنشي حيث ظهرت فنانة مع متحولين جنسياً، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة النطاق من مؤتمر أساقفة الكاثوليكية الفرنسية والطائفة الأنغليكانية في مصر وغيرهم حول العالم الذين رأوا في المشهد سخرية من المسيحية. لكن المتحدثة باسم الأولمبياد، آن ديكامب، أكدت أن الهدف كان الاحتفال بالتسامح والتنوع، وأعربت عن أسفها لأي إساءة شعرت بها الجماهير.
سبب عدم توقعي هو أن ما يفعله الفرنسيون عادة ما ينبع من قيمهم الراسخة ودفاعهم المستميت عن قضاياهم وما يعتبرونه "حرية" وهم من قادوا أشهر ثورة نحو العدالة والحرية في العصر الحديث. غير أن الاعتذار فضيلة لن تكف عن ملاحقة كل أفعالنا. فلا يكفي أن اأتصرف بحسب قيمي، لأن في بعض الأحيان قد تجرح قيمي مشاعر ملايين الناس فأجد نفسي مضطراً للاعتذار.
الاعتذار هو تعبير عن الندم أو الأسف عن تصرف أو قول أو إشارة تسببت في إزعاج الآخرين. هدفه الأساسي ترميم الفعل الذي أحدث تصدعاً في العلاقة عبر إظهار الاحترام أو الاعتراف بالخطأ.
ولحسن الحظ فإن فضيلة الاعتذار تأتي بصيغ مختلفة، منها ما هو مباشر لتخفيف وطأة الفعل وامتصاص غضب من أحدث فعلنا جرحاً غائراً في وجدانه. وهناك اعتذار غير مباشر، وهو فعل أو قول أو إشارة لا تتضمن كلمة "آسف" لكن يفهم منها الاعتذار. مثل مسح التغريدة أو المنشور بهدوء تام من دون أي تعليق.
ويتردد البعض في الاعتذار خشية الظهور ضعيفاً، أو أقل كفاءة. وهناك من يصر على أنه على حق فلا يقوى أحد على نزع اعتذار منه. بعضنا يتردد من الاعتذار خشية العواقب القانونية، لأنه اعتراف صريح قد يدفع البعض إلى مقاضاتنا.
في بعض الثقافات، ما زال الاعتذار لا يعتبر من شيم المرء، لأنه يقلل من قيمته أو مكانته. وهو بخلاف الثقافة اليابانية التي أقدمت على أشهر اعتذار عن اعتداءاتها العسكرية على شرق آسيا والتي أججت أو فاقمت الحرب العالمية. حاول الرئيس الأميركي بيل كلينتون أن يعتذر عن علاقته العاطفية مع مونيكا، في حقبة التسعينات، بتكرار اعتذاره المباشر وغير المباشر في خطابه الشهير للأمة وهو يرتدي على غير عادته ربطة عنق خضراء اعتبرت علامة على الصدق والخير والهدوء.
بعض الاعتذارات تمتص الغضب الجماهيري، مثل اعتذار مؤسس "فايسبوك" مارك زوكربيرغ عن تسريب بيانات المستخدمين في ما سُمي إعلامياً بفضيحة "كامبريدج أناليتيكا". وهو ما طمأن الجمهور إلى أن خطوات جادة بدأت لحفظ بيانات المستخدمين وصورهم. شركة النفط البريطانية BP قدمت اعتذارات عدة بعيد حادثة تسرب النفط في خليج المكسيك، في عام 2010، بل تعهدت التعويض، وهو ما هدّأ من غضب الناس ووسائل الإعلام.
هناك حالات لا ينبغي الاعتذار فيها كالدفاع عن الحقوق الأساسية والمكتسبات، والعدالة وغيرها. ولا يتوقع من أحد أن يعتذر عن ردود فعل مشروعة تجاه خطأ ما ارتكب. ولا اعتذار عن عدم الدفاع عن سيادة الوطن والذود عن ترابه. وبعض الاعتذارات قد تضر بالمصلحة القومية أو الأمن الوطني.
فضيلة الاعتذار فرصة لتصحيح الأخطاء، وبناء الثقة لكنها ينبغي أن تستخدم بحكمة. ويسحب الاعتذار البساط من تحت أرجل المتربصين بزلاتنا.