يوفّر الغربُ للإسلامجية ما يمكن أن نطلقَ عليه ثقلاً طبقياً ومظهرياً. وهذا جناح ثانٍ لسياسة بدأتها دولٌ راعية فهمت هذا العامل النفسي، ومنحت الإسلامجية منذ التسعينات استديوهاتٍ وأضواء. والآنَ أمدَّتهم بمراكزَ أوروبيةِ العناوين، وقنواتٍ تبدأ برامجها بـ«غود مورنينغ» و«بونجور»، ومقاعدَ في جامعات مرموقة، وعواميدَ في صحف كبرى تصدر في واشنطن ولندن وباريس.
والنتيجة نراها الآن. بعد التضييق على منافذ الإخوان المسلمين في منطقتنا، صار لإسلامجية الغربِ دورٌ محوريٌّ في مشكلة التطرف الإسلامي العالمية. ولم يعد ممكناً أن نتعامل مع المشكلة هنا، دون أن نتعاملَ معها هناك.
التفاهمات السياسية بين الإسلامجية وتيارات يسارية عاملٌ ثانٍ حوَّل مركز ثقل التطرف الإسلامي إلى الغرب؛ إذ منح حركات الإسلام الصدامي فرصة شَغْلِ حصة المسلمين في سياسات التنوع الوظيفي، وقوائم مرشحي المجالس البلدية.
والعامل الثالث الديمقراطية. بعضنا يتهم الغرب بالتواطؤ مع حركات الإسلام الصدامي. صحيح. لكن الموضوع أعقد من ذلك. هذه الحركات، مع الدعم الإعلامي من الدول الراعية، وسياسات الهجرة المنفلتة، عظّمَت منذ التسعينات سلطتها على القرار في أوساط المسلمين، وهم نسبة معتبرة من السكان، 6 بالمائة في المملكة المتحدة، و10 بالمائة في فرنسا، تصوت غالباً في اتجاه واحد. كما أنها مؤهلة للفوران بالنظر إلى فئاتها العمرية، ومستواها الاجتماعي. حركات الإسلام الراديكالي لاعبت حكومات الغرب لعبة الشرطي السيئ والشرطي الطيب، ملوّحة بعصا الإرهاب وجزرة الوسطية، كما استغلت ثغرات الديمقراطية، واستغلت سياسات الإعاشة. بعد أن شحنت آيديولوجياً بطارية الاستحلال، والعداء للمجتمع الغربي، والبغض للمختلفين، والوعد بالتمكين. ولم يكن يسيراً على الغرب في مواجهتها التخلي عن نمط حياته ونظامه الاجتماعي والقانوني.
وهنا أسمع أصواتاً تقول للغرب: «اشربوا، ألم نحذركم؟!»، اعتقاداً أن المشاكل التي تواجهها دول غربية حالياً ستبقى بين جنباتها. وليس هذا صحيحاً.
أولاً: لأنَّ أي مواجهة أهلية عنيفة مع مسلمين في الغرب ستتحوَّل إلى قضية تجييش جديدة لصالح التطرف عندنا.
ثانياً: هذا النزاع المحتمل أحد أهداف حركات الإسلام الصدامي، تنتظره وتستعد له وتعول عليه. هي سياسة الفسطاطين التي تحدث عنها بن لادن، ثم أضاف إليها اليسار الإسلامي قناعاً من الرطانة يؤدي إلى نفس المعنى. وهذه الحركات ذات خبرة طويلة في التنظيمات المسلحة. وأفرادها مدربون على ذلك.
ثالثاً: الدول الغربية لا تتحمَّل نزاعات أهلية مع آيديولوجيا انتحارية. وتفضل المساومات. تذكروا أن ما حدث في الربيع العربي كان مقايضة مفادها أن أقصر طريق إلى تهدئة في الغرب هو دعم وصول إسلامجية إلى السلطة عندنا. في النهاية يعتقد الغرب أن احتواء دولة عدوانية في الشرق الأوسط أرخص ثمناً من التعامل مع عنف أهلي داخلي، وسيرسل المشكلة على طائرة خمينية أو قطار بلشفي.
من الواجب إذن أن نترك الشماتة، وأن نفكر قبل فوات الأوان: ما العمل؟
الإعلام أكثر الأدوات السياسية رشاقة وأسرعها، ويمنحك سياقاً لكل إجراء آخر. لا بد من إعلام يخاطب مسلمي الغرب. وهذا يحتاج إلى فهم الواقع، وتحديد الجمهور المستهدف وفرص الاختراق، وصياغة الرسالة.
لنبدأ بالواقع: الإسلامجية سيطروا على المجتمعات المسلمة في الغرب، وتحالفوا مع اليسار، وتسللوا إلى لوبيات النسوية والهويات الجندرية. لكن هذه الصورة العامة لا تخلو من تشققات. لدينا شريحة من المسلمين الراغبين في الاندماج، من أبناء الجيل الثالث والمتضررين من الضغوط الاجتماعية، والذين لا يجدون منفذاً لأصواتهم في إعلام المينستريم. ولدينا مسلمون متدينون محافظون يعارضون أجندة حلفاء الإسلامجية في شقها الثقافي.
كما يجب أن نتذكر أن إضعاف الإسلامجية سياسياً يتطلب إضعاف اليسار المتحالف معهم. في هذا السياق، لدينا الجيل السابق من النسويات الذي يتعرض للإلغاء على يد اليسار الحالي. ولدينا خصوم اليسار والإسلامجية من القوى اليمينية، وبعضه يحظره إعلام المينستريم باعتباره متطرفاً. هذا الطرف بالذات يحتاج إلى سعة أفق وبراغماتية في التعامل معه؛ لأن تَفَهُّمَ جمهورٍ مسلم للجزء العادل من رسالته يسهم في تقليص فرص صراع محتمل. ويحقق مصلحة مشتركة في كبح جماح الإسلام الصدامي. كما يساهم في توجيه الغضب نحو السياسات الحكومية المشجعة للمتطرفين الإسلاميين، وليس المسلمين العاديين.
تذكروا أننا نتحدث عن طرح إعلامي، وليس تحالفاً سياسياً. تبقى الرسالة. لا بد أن ننسى الجمل المعلبة عن نشر الإسلام الوسطي أو الصحيح. ليست هذه رسالة الإعلام. نتحدث هنا عن الحياة اليومية لمسلمي الغرب، وعن وضع سياسي. الرسالة يجب أن تكون واقعية بسيطة. إعلام يفتح أفقاً للمعرفة والرؤية في عالم واسع متعدد الأصوات والثقافات، ويتحدث إلى المشاهد بوصفه إنساناً له حياة وطموحات، وليس إنساناً برتبة مناضل، ويوفر منافذ لأصوات يتجنبها إعلام المينستريم الخاضع لهيمنة اليسار.