تركز شركات التقنية في العالم بشكل زائد مؤخراً على الذكاء الاصطناعي، فهي تنظر إليه بوصفه عاملاً حاسماً في التقدم التقني، فضخّت كبريات الشركات التقنية مثل «أمازون»، و«مايكروسوفت»، و«ميتا» - «فيسبوك» سابقاً، و«ألفابت» - الشركة الأم لـ«غوغل» - مليارات الدولارات في البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي؛ بهدف إحداث ثورة في كامل سلسلة القيمة بدءاً من الحوسبة السحابية إلى التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا التركيز الزائد على الذكاء الاصطناعي ليس مجرد اتجاه، بل هو خطوة استراتيجية يعتقد عمالقة التقنية أنها ستضمن لهم الهيمنة في المستقبل الرقمي، ومن منظور الشركات، يُنظر إلى هذا الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي على أنه رهان ضروري للبقاء في طليعة مشهد التقنية سريع التغير، ولكن هذا الرأي لا يتوافق بكل حال مع مستثمري «وول ستريت».
وقد كشف أحدث التقارير المالية عن زيادة مذهلة في النفقات الرأسمالية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. ففي النصف الأول من عام 2024 فقط، أنفقت هذه الشركات العملاقة مجتمعة أكثر من 106 مليارات دولار على البنية التحتية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مراكز البيانات والخوادم والعقارات. ويمثل ذلك ارتفاعاً كبيراً في الإنفاق مقارنة بالسنوات السابقة، مما يعكس التزام هذه الشركات بإنشاء أساس قوي لمبادراتها في مجال الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، حوّلت «أمازون» جزءاً كبيراً من إنفاقها الرأسمالي من مستودعات البيع بالتجزئة إلى البنية التحتية لمراكز البيانات. وبالمثل، أعلنت «مايكروسوفت» أنها خصصت 19 مليار دولار للنفقات الرأسمالية في الربع الأخير، مع تخصيص جزء كبير منها للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي. بينما تعتزم «ميتا» إنفاق ما يصل إلى 40 مليار دولار على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي هذا العام. كما زادت «ألفابت» من إنفاقها بشكل حاد على الذكاء الاصطناعي، حيث ارتفعت نفقاتها الرأسمالية بنسبة 90 في المائة في النصف الأول من عام 2024 لتصل إلى 25 مليار دولار.
ولكن هذه الاستثمارات لم تحظَ بالقبول الكافي من مستثمري «وول ستريت» لا سيما بشأن العوائد الفورية لها. فقد عبّر المستثمرون عن شكوكهم بشأن ربحية هذه الاستثمارات الكبيرة في الذكاء الاصطناعي على المدى القصير. وتبرر هذه الشكوك التقلبات الأخيرة في أسهم التقنية، مع تذبذب كبير في القيم السوقية لشركات مثل «إنفيديا»، و«إنتل»، وحتى الشركات التقنية العملاقة. وبالتحديد، فإن هذه المخاوف تتمحور حول عدم اليقين بشأن نماذج الأعمال والعوائد المتوقعة من استثمارات الذكاء الاصطناعي. ويرى بعض المحللين أنه على الرغم من الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، فإن الجدول الزمني لتحقيق عوائد كبيرة لا يزال غير واضح، وقد شبه بعض المحللين هذه الموجة من الإنفاق بفقاعة الاتصالات في أواخر التسعينات وأوائل الألفية، حيث أدى الاستثمار المفرط في البنية التحتية إلى خسائر كبيرة لكثير من الشركات.
والإنفاق الضخم المعلن عنه مؤخراً، دفع المستثمرين إلى اتهام المديرين بخلق ثقافة تطلب منهم الثقة العمياء برؤيتهم طويلة الأجل، رغم عدم وجود مكاسب مالية بشكل فوري أو جدول زمني واضح. وهو جدل أبدي بين الملاك والمديرين، حيث لا يثق الملّاك أن المديرين يعملون في مصلحتهم بشكل كامل، وهو ما يعرف أكاديمياً بـ(نظرية الوكالة) (Agency Theory). ولا يستغرب هذا الخلاف، وهو في الأغلب خلاف صحّي، فلو ترك الأمر للمستثمرين، لفضّلوا الاستثمارات قصيرة الأجل التي تولد سيولة بشكل سريع، وتُحقق لهم أرباحاً آمنة على المدى القصير، دون النظر في الاستثمارات طويلة الأجل التي تعظم قيمة الشركات على المدى الأبعد، وتبقيها تنافسية في هذا المجال الصعب.
في المقابل، لو ترك الأمر للمديرين، لفضّلوا اتباع أحلامهم في التفوق في الذكاء الاصطناعي، ودعم الاستثمارات المتخصصة في هذا المجال، حتى لو فشلت بعض هذه المشاريع، أو تغير التوجه التقني لسبب أو لآخر، ولذلك فإن هذا الخلاف هو ما يحقق التوازن الذي يعظّم أرباح المساهمين على المدى القصير، دون الإخلال بقيمة الشركات المستقبلية.
إن توجه الشركات التقنية العملاقة في ضخ الاستثمارات نحو الذكاء الاصطناعي له ما يبرره، فهو قد يعني بقاء الشركة من عدمها في المستقبل، والشركات التقنية نفسها قد اتخذت لنفسها مكاناً بين كبريات الشركات العالمية بعد أن أخرجت شركات أخرى من الأسواق لم تلتفت لأهمية دور التقنية، وهي لا تريد لنفسها هذا المصير بكل تأكيد، في المقابل فإن المستثمرين قد رأوا نتائج بعض هذه التوجهات الحادة للشركات التقنية، مثل التوجه نحو صناعة الألعاب أو الأفلام والمسلسلات، التي نجح بعضها وأخفق بعضها الآخر بعد سنوات من الإنفاق الملياري المكثف، وهم لا يريدون لهذه المشاريع المندفعة أن تتكرر، ولكن يبدو أن سطوة مديري الشركات - وهم في الأغلب المؤسسون لها - غلبت رغبة المستثمرين، والزمن كفيل بإظهار نتائج هذه الاستثمارات.