هناك مهن إنسانية مع كونها مورد رزق لصاحبها، منها مهنة الطب ومهنة التعليم وغيرهما، وكنت في صغري أظن أن مهنة الطب مهنة إنسانية خالصة، لا سيما وأنه في ذلك الوقت كان معظم الأطباء يعملون في مستشفيات حكومية باستثناءات بسيطة لأطباء لهم عياداتهم الخاصة، ولكن بعد أن كبرت لاحظت طغيان المبدأ التجاري على مهنة الطب إلا من رحم ربي.
ولاحظت أن كثيراً من أبناء المجتمع لم يعودوا يثقون بما يقول الأطباء نتيجة لطغيان الصفة التجارية على هذه المهنة، وبدأوا يتشككون فيما يقول الأطباء نتيجة التحول الدراماتيكي لهذه المهنة، من مهنة تؤمن بقسم أبقراط، إلى مهنة غلبت عليها الصفة الاقتصادية أو بالأصح الصفة التجارية الهادفة للربح فقط.
وأذكر أنه مرة جمعتني صدفة طيبة بالالتقاء بطبيب عربي يعمل في دولة عربية وكان رئيساً لقسم الجهاز الهضمي وأيضاً يملك عيادة خاصة، ومن الطبيعي أن يكون السؤال الأول لي بعد المجاملات المتعارف عليها عن رأيه في عمليات تكميم المعدة ومدى فاعليتها.
فكانت إجابته: بعد التكميم سينزل الوزن وهذا طبيعي ولكن إذا لم يلتزم المريض بالحمية طول حياته فسيعود الوزن المفقود خلال سنة، وأردف ضاحكاً، لذلك أنصح الفتيات ذوات الوزن الزائد والمقبلات على الزواج بأن ينجبن بأسرع وقت لأن الوزن سيعود كما كان ولعل الإنجاب يكون حامياً لعش الزوجية، وأضاف: بصدق شديد لولا المردود المادي للعملية لنصحت المريض بالحمية والرياضة لإنقاص الوزن، لأن ذلك أجدى لكن إجراء العملية مردوده المادي أعلى من نصيحة عابرة وصادقة لا أتقاضى عليها سوى أجر زيارة واحدة للعيادة، بمعنى أن العائد الاقتصادي طغى على أخلاقيات المهنة.
من ناحية أخرى، يحكي لي شخص آخر أنه يعاني من ألم في أذنه ويراجع لدى طبيب في مستوصف أهلي ويعرف سبب المرض، وهو دخول الماء في أذنه، وذات يوم احتاج للطبيب فزار المستوصف وعرف أن الطبيب في إجازة نهاية الأسبوع، يسترسل ويقول: بعد أن عرفت أن طبيبي في إجازة، قررت أن أذهب لمستشفى كبير، وفعلاً ذهبت للمستشفى الكبير وهو بالمناسبة أهلي، وبعد أن عرضوا علي أسماء الأطباء بينهم الأجنبي والعربي اخترت طبيباً سعودياً، وحجزت موعداً وذهبت في الموعد نفسه، وبعد أن أجرى الكشف وعرف بعد شرحي أن سبب الالتهاب دخول الماء في الأذن، سألني هل لدي تأمين؟ أجبته بنعم، فقال نحتاج أن نأخذ إشاعة للأنف تكلف 1200 ريال (320 دولاراً)، وأردف الطبيب وأنت تعرف ارتباط الأنف بالأذن، يقول المريض: أجبته نعم أعرف لكني أيضاً أعرف سبب الالتهاب وأعرف ضرر الأشعة، ولست بحاجة لها رغم وجود التأمين، يردف المريض: لم يكن الطبيب مرتاحاً لإجابتي لذلك تركني مع الممرضة التي أعطتني الوصفة، فعرفت والكلام للمريض أن الهدف تجاري وهو ما أعادني للطبيب في المستوصف الأهلي وبعد أن انتهت إجازته الأسبوعية أشرف على علاجي حتى الشفاء.
من المؤسف أن تنقلب هذه المهنة إلى مهنة تجارية بحتة لا تراعي أخلاق المهنة أو قسم أبقراط، بإمكان المستشفيات الأهلية أن تربح مع مراعاة أخلاق المهنة أكثر بكثير من الربح الذي تجنيه بصفة غير أخلاقية، ذلك أن مراعاة أخلاق المهنة ستخلق سمعة طيبة للمستشفى تجعل أفراد المجتمع يثقون في أطبائه ويتجهون إليه، مما يعني زيادة عدد المرضى وزيادة الربح الكلي بعيداً عن ارتفاع هامش الربح للمريض الواحد، وإذا آمنا بأن هدف المستشفيات الخاصة تجاري بحت فإن أولى ثقة المستهلكين بالتاجر المصداقية. ودمتم.