في الرابع من نيسان (أبريل) 2024، أكّد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في اجتماعه بالرباط مع المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة لقضية الصحراء المغربية الإيطالي دي ميستورا، أنّ المغرب غير مستعد للتراجع عن لاءاته الثلاث في ما يخص تعاطي الأمم المتحدة مع قضيته الترابية.
وقد شمل بيان للخارجية المغربية في أعقاب ذلك اللقاء تلك "اللاءات" بالتالي: "لا عملية سياسية خارج الموائد المستديرة التي تقودها الأمم المتحدة وبمشاركة جزائرية كاملة... لا حل خارج المقترح المغربي للحكم الذاتي، ولا تقدّم في ظل انتهاك وقف إطلاق النار من قبل البوليساريو".
موقف الخارجية المغربية كان واضحاً بالقدر الذي يستوعبه السيد دي ميستورا، الذي روّجت صحيفة بريطانية أنّه يعتزم تقديم استقالته بعد عجزه عن إحراز تقدّم في الحل السلمي للنزاع المفتعل، ويبدو أنّ رحيل دي ميستورا هو أقرب إلى الواقع، سواءً بالاستقالة أو من دونها، بخاصة بعد زيارته قبل أشهر إلى جنوب إفريقيا.
الحديث عن رحيل دي ميستورا يتزامن مع حلول الذكرى الـ51 في العاشر من هذا الشهر لتأسيس جبهة البوليساريو، ومعها وهم تحقيق مؤامرة الانفصال في الصحراء المغربية. خمسة عقود من الوهم يدفع المحتجزون في المخيمات في تندوف ثمناً قاسياً عنها، ذلك، أنّ أجيالاً بكاملها تمّ اختطافها مادياً ومعنوياً، إذ تمّ تحويلها بشكل جماعي إلى مجرد رهائن وأذرع بشرية للتسول بها على عتبات المنظمات الإنسانية الدولية، ولتقديمها في صورة شعب لجمهورية وهمية.
وإذا كان كثير من الحركات الإنفصالية حول العالم تحرّرت من الشعارات والأوهام ذات الطبيعة الإيديولوجية التي نشأت في ظل الحرب الباردة في القرن الماضي، وقرّرت بشجاعة واستقلالية نزع سلاحها بل وحلّ تنظيماتها والانخراط في العمل السياسي من داخل المؤسسات، مثل تجربة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، عندما دعا في عام 2013 إلى ترك السلاح وتغليب العمل السياسي، في نزاع راح ضحيته أكثر من 45 ألف قتيل، أو ما قامت به حركة "إيتا" الباسكية في إسبانيا سنة 2018 عندما طلبت الصفح واعتذرت للضحايا، معلنة حل التنظيم والاعتراف بفشل اختيار العنف وطريق العمل المسلح... هذه النماذج توضح أنّ كل قيادة سياسية وعسكرية عندما تكون مستقلة في قراراتها، فإنّها تكون قادرة على اتخاذ قرارات منطقية وسليمة، والتعامل مع الواقع بمسؤولية والقدرة على ممارسة أقصى درجات النقد الذاتي. فهل يتوفر هذا الأمر في قيادة البوليساريو؟ قطعاً لا...
الشعار الذي رفعته جبهة البوليساريو منذ 1973، عندما تحولت إلى تنظيم "دمية" في يد القذافي وبومدين لمحاربة الراحل الملك الحسن الثاني واستهداف النظام الملكي الوحيد في إفريقيا، كان هو تقرير المصير تبعاً لخصوصية ثقافية متوهمة لمجموعة عرقية، فإذا كان مبدأ تقرير المصير ليس معيباً في حدّ ذاته، فأنّ المطبّ الذي وقع فيه كل من القيادة الليبية والجزائرية، كان هو عجزهما عن استيعاب المفهوم في أبعاده الواسعة، بحيث ظلّ فقط مرادفاً للانفصال.
خطورة الأمر تظهر عند تعميمه وجعله هو الغالب على الساحة الدولية، ذلك أنّ إفريقيا وحدها توجد فيها 300 مجموعة عرقية، فإذا سايرنا المفهوم الضيق لتقرير المصير، ستسقط في يد النظام الجزائري أكذوبة الحدود الموروثة عن الاستعمار وتناقضها مع حق تقرير المصير بمعنى الاستقلال والانفصال. على هذا الأساس يجب تأسيس مئات الدول في إفريقيا وحدها، وهو الوضع نفسه على المستوى العالمي، إذ يتجاوز عدد العرقيات حول العالم 5 آلاف عرقية، فهل يمكن تصور منح تقرير المصير بمعنى محدّد يعني الاستقلال وتأسيس دول جديدة، لكل هذه العرقيات؟
لحسن الحظ، أن ليس كل العرقيات في العالم تطالب بتأسيس دول، لكن مع ذلك لا بدّ من التذكير أنّه في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 2017 تمّ إحصاء 22 حركة أو إقليم انفصالي في العالم من طرف المعهد الألماني "كونراد أديناور"، منها 8 حركات وأقاليم في إفريقيا وحدها وهي: البوليساريو في الصحراء المغربية، أزواد في مالي، بيافرا في نيجيريا، أمبازونيا في الكاميرون، كامبيندا في أنغولا، أوغادين وأروميا في إثيوبيا، ثم أخيراً أرض الصومال في الصومال. ولا شك في أنّ استمرار هذه المشاريع الانفصالية يشكّل عاملاً لعدم استقرار إضافي على المستوى العالمي، ذلك أنّ الحركات والمطالب الانفصالية تهمّ كل المناطق في العالم، وهو ما يعني أنّ مفهوم تقرير المصير لا يمكن أن يكون معولاً لتفكيك الدول تحت أي ظرف وتبعاً لأي تفسير.
الجزائر ومعها جبهة البوليساريو الانفصالية تعيشان منذ سنوات حالة من التيه والارتباك، انعكس بشكل واضح على سلوكياتهما ومواقفهما وقراراتهما، وهي حالة تعُتبر انعكاساً صريحاً لوضعية النظام الجزائري الذي احتضن فكرة الانفصال ونفخ فيها على مدى خمسة عقود.
على عكس ما نهجه عدد من الحركات الانفصالية في العالم من جنوح للسلم والحلول السياسية، اختارت جبهة البوليساريو منذ نهاية سنة 2020 إعلان عدم إلتزامها وقف إطلاق النار الذي تمّ تحت إشراف الأمم المتحدة منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وجسّدت الجبهة هذا القرار عندما أغلقت معبر الكركرات البري الرابط بين المغرب وموريتانيا، والذي تعبره نسبة كبيرة من التجارة الدولية التي تربط أوروبا بإفريقيا، قبل أن يتدخّل الجيش الملكي المغربي لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، بطرد ميليشيات الانفصاليين وتحرير التجارة الدولية عبر المعبر... سلوكيات الجبهة الإنفصالية المخالفة لقرارات الأمم المتحدة لم تستثن حتى القوات الأممية التي تشرف على مراقبة وقف إطلاق النار.
في المقابل، وفي إطار الوفاء لحالة إنكار الواقع التي سقطت فيها البوليساريو ومعها النظام الحاكم في الجزائر، سعت الجزائر ومن ورائها الجبهة الإنفصالية، إلى جرّ مجلس الأمن إلى وهم وجود حرب طاحنة في الصحراء لا يعلم بها أحد غيرهما، بل الأسوأ من ذلك، ما عبّر عنه بكثير من الخيبة ممثل الجبهة في نيويورك، من أنّ مجلس الأمن الدولي تقاعس وأضاع فرصة أخرى لتحقيق التسوية. وذلك بعد أسابيع قادت فيها الجزائر حملة واسعة لتسويق روايتها المشروخة وللتأثير على أعضاء مجلس الأمن، وهو ما انتهى بلا نتائج تُذكر، فالتسوية وفق جبهة البوليساريو هي تنظيم إستفتاء لتقرير المصير وفقاً لمخطط التسوية التي أقرّت الأمم المتحدة منذ 2007 باستحالة تطبيقه، وبدلاً منه اعتبرت مبادرة الحكم الذاتي هي الأرضية التي يجب أن تتمّ على أساسها تسوية النزاع.
لقد أبرزت التحولات الأخيرة في ملف الصحراء، أنّ المغرب اختار وضع قواعد جديدة للتعاطي مع النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، سواءً على المستوى الدبلوماسي أو العسكري، فهذا النزاع يعدّ واحداً من النزاعات الموروثة عن الحرب الباردة خلال القرن الماضي، ويمكن القول، بالنظر للتطورات الأخيرة، إنّ النزاع من المرجح أن يعود مجدداً إلى دائرة الحرب الباردة الجديدة التي تشهدها العلاقة بين روسيا والغرب، وهذا يُعتبر من أبرز التحدّيات التي ستواجه الملف في السنوات المقبلة، ما ينذر بمزيد من التعقيد وصعوبة إيجاد حل واقعي يطوي هذا النزاع الذي يمنع قيام تكتل إقليمي متضامن ومتماسك على مستوى المغرب الكبير وشمال إفريقيا. ويُعتبر ذلك إهداراً بالجملة، لفرص التنمية في هذه المنطقة التي توجد في قلب العالم وفي قلب رهانات الدول الكبرى...