الإخوة الأكراد، إخوتنا في الدين والإنسانية والأوطان، بل إن أغلبهم تعود أصولُه إلى قبائل عربية معلومة، كما هو معروف لدى النسّابة والمؤرخين، ومنطقتهم تسمى كردستان، أي المثلث الواقع بين تركيا وإيران والعراق. ومنطقة الأكراد الواقعة في شمال العراق، أي الجزء العراقي من كردستان، منطقة استراتيجية متميزة وجاذبة للاستيطان البشري ومغرية بالعيش فيها، إذ تتسم بطبيعة خلابة وجبال عالية وأشجار مثمرة وفواكه كثيرة متنوعة تنمو على الطبيعة في أطراف الجبال وعلى امتداد السهول والوديان، يجنيها الناس ويقطفونها يانعةً بأيديهم، فضلاً عن الوديان ومجاري المياه والأجواء اللطيفة على مدى أشهُر فصل الصيف في معظمها.. مما يجعل كردستان العراق إحدى أجمل المناطق السياحية في العالم، لذا فهي بيئة جاذبة للزوار وموطن مفضل للفلاحين والرعاة وأصحاب الماشية، وذلك لوفرة المراعي فيها وتنوع الأشجار والأعشاب وخصوبة الأرض. وكانت هذه المنطقة في السابق مكاناً لصراعات الدول المجاورة، حيث ما فتئ سكانُها يدفعون ثمن تلك الصراعات والمناكفات الإقليمية، كما كانت ملاذاً آمناً للمجاميع الكردية المسلحة، وذلك لوجود الجبال العالية الوعرة الملائمة بطبيعتها الطوبوغرافية للاختفاء فيها، حيث نادراً ما تستطيع العربات والآليات المتحركة الوصولَ إلى عمقها.
وبسبب كل هذه الخصائص الجغرافية والمميزات البيئية أصبح الكردي يشعر بأن منطقته مملكته الخاصة، كما أصبحت لديه خصوصية مميزة في اللباس واللهجة والولاء للأرض وسكانها. دافع الكردي بكل قوة عن وجوده على أرضه حتى انتزع من بغداد إقراراً بالحكم الذاتي، وذلك في عام 1970 بعد اتفاق مبرم بين الحكومة العراقية المركزية والمعارضة الكردية بزعامة البارزاني. ثم انتزعه مرة أخرى بعد الغزو الأميركي البريطاني عام 2003. ارتأيتُ هذه المقدمةَ كمدخل للموضوع بعدما أرسل لي أحد الأصدقاء مقطعاً صوتياً للصحفي الرياضي «لاوين هابيل» يعلق فيه على مباراة العراق والفلبين، في إطار تصفيات كأس العالم، وبالخصوص كلامه بعد فوز العراق على خصمه.
ورغم عدم اهتمامي أصلاً بكرة القدم، فقد أُعجبت كما أُعجب الجميع بصوت هذا المعلق الرياضي (الكردي) في مقطعه الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي بدأه بالإشارة إلى أنه من مدينة دهوك الكردية، ثمَّ شد انتباه المتابعين للمباراة بفصاحة كلماته العربية، وبروحه الوطنية المتوثبة طوال المباراة، وهو يشجع ويتألق في مدح منتخب وطنه، والذي قد لا يضم لاعباً كردياً، لكن المعلق «لاوين هابيل»، العراقي الكردي، شد انتباهَ المتابعين أكثر من متابعتهم للمباراة، بكلمات وطنية قوية ومدهشة ومدوية، وهو يعدد مزايا وخصائص وطنه ومنجزاته التاريخية ودوره المحوري في صنع الحضارة وموقعه المؤثر بين دول العالم.. واصفاً إياه بأنه المعادلة الصعبة. يقول هابيل: «عذراً نيوتن فالعراق يجذب أكثر، وعذراً أديسون فالعراق هو المصباح، وعذراً روما فالطرق كلها تؤدي إلى العراق.. فالعراق لا يخسر ولا ينكسر».. كأنه يلقي شعراً أمام كل قادة العراق ورموزه الوطنيين وجميع أبنائه الذين ضحوا من أجل الدفاع عنه.
ربما لم نسمع معلقاً رياضياً أبدع وتألق وربط الأحداث والمراحل التاريخية بمجريات مباراة كروية وفق هذا الأسلوب البديع والحماس العجيب، معدداً مناقبَ وطنه بهذه الطريقة الجذابة، كما فعل ذلك الكردي من أجل وطنه العراق، والذي بدا لنا ونحن نسمعه كما لو أنه المتنبي يقف أمام سيف الدولة! لله درك يا «لاوين هابيل»، لقد أعطيتَ المعلقين الرياضيين درساً في الوطنية، لأنك تمتلك ثقافة واسعة استطعتَ أن توظفَها في ميدان الكرة لتوصل رسالتَك إلى العالم بأن الوطن هو الهواء والماء والسماء والأرض وأن الانتماء لغيره باطل.. باطل!