: آخر تحديث

التجويع.. أقدم سلاح للإبادة

23
26
29

سلاح الجوع ليس سلاحاً نووياً ولا ذكياً.. وليس اختراع اليوم، بل هو أقدم سلاح في الكون، يعود إليه المقاتلون بهدف إضعاف الخصم، ليسهل تحطيم إرادته وتسهيل إبادته.

ولطالما كانت المجاعة سلاح إبادة.. حيث شهدت العديد من الحروب المجاعات الواسعة النطاق التي أدت إلى مقتل ملايين الأشخاص، بسبب نقص الغذاء والمياه، وانتشار الأمراض.

فمثلاً خلال الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين، تسببت الحصارات والقصف في تدمير البنية التحتية للعديد من الدول، وتقطيع خطوط الإمداد، ما أدى إلى انتشار المجاعات في العديد من المناطق.

القوات النازية كانت أول من استخدم هذا السلاح في الحرب، بهدف الضغط على الحكومات والشعوب المعارضة لها. وكانت تهدد بالمجاعة في المناطق التي ترفض التعاون معها أو تقاومها. كما استخدمت النازية المجاعة أيضاً كوسيلة لخلق حالة من الفوضى والضعف في البلدان التي كانت تتوغل فيها عسكرياً، بهدف زعزعة استقرارها وتسهيل احتلالها. بهذه الطرق كانت النازية تستخدم المجاعة، لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.

وفي الحرب العالمية الثانية عانى العديد من البلدان المجاعات الواسعة، وتعتبر أكبر مجاعة حدثت في الفترة ما بين عام 1941-1944 في الاتحاد السوفييتي، حيث قُتل ملايين الأشخاص، بسبب الجوع والأمراض المرتبطة بها.

مجاعة (لينينغراد) وهي واحدة من أكبر المجاعات في العالم. بدأت بعد أن حاصرت القوات النازية المدينة في سبتمبر/أيلول عام 1941 وقطعت جميع الإمدادات والمواد الغذائية عنها. تعرض السكان لنقص حاد في الطعام والوقود والماء، ما أدى إلى انتشار الجوع والأمراض بشكل كبير. كما تعرض السكان لظروف قاسية، حيث كانوا يعيشون في ظلام دامس، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي ويكافحون من أجل البقاء، بينما تنهار هياكلهم الجسدية بسبب الجوع، ما اضطر عدد كبير من الناس إلى تناول الأطعمة الفاسدة، وأعلاف الحيوانات وأكثر من ذلك، مما جعل البشر يسمونه (الجوع الكافر). ذلك الجوع الذي يوهن العقل والجسد والإرادة وحتى الإيمان. راح ضحية تلك المجاعة أكثر من 1.5 مليون شخص. وهو ما يعتبر أكبر عدد من الضحايا يحصل في مدينة واحدة، نتيجة الجوع. كانت المأساة الإنسانية ذات تأثير كبير في السكان وأثرت في النفسية الجماعية للمدينة لعقود بعد انتهاء الحرب.

وفي النهاية تمكنت قوات الجيش السوفييتي من كسر الحصار في يناير/كانون الثاني عام 1944 وإعادة فتح المعابر الرئيسية لإمداد المدينة بالمواد الغذائية، ما أنقذ الناجين وأدى إلى تحسين الوضع تدريجياً. تعد مأساة (لينينغراد) واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية التي شهدتها البشرية، وهي من صنع الفكر النازي المتطرف الذي اندحر، وللأسف ولم تندحر دروسه وأفكاره التي نراها اليوم تعود وعلى يد من؟ أول ضحاياها وأكثر المستغلين لتطرفها وإجرامها استجداءً لعطف العالم..

تحرك العالم كله متعاطفاً مع ضحايا النازية، وعلى رأسهم (اليهود) الذين أجادوا حفظ الدرس جيداً، فكان أن تكونت الحركة (الصهيونية) وهي حركة سياسية وليست حركة (دينية)، وإن غطت نفسها بقناع الدين. هم كانوا أول المتمسكين بالقوانين الإنسانية التي حرّمت استخدام المجاعة في الحروب. وفي (القانون الدولي الإنساني) الذي حظر استخدام المجاعة كوسيلة للقتل والإبادة. وينص القانون على حماية المدنيين، وضمان حصولهم على الغذاء والماء والرعاية الصحية خلال الحروب. إضافة إلى اعتماد بروتوكول إضافي (لاتفاقية جنيف عام 1977)، التي تضمن حماية المدنيين وتَحظر التجويع. كما تَحظرها اتفاقات دولية أخرى، مثل (اتفاقية التحكيم الدولية) و(اتفاقية حقوق الإنسان)، كلها تمنع استخدام الجوع وتعتبره جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي، ووفقاً للمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لجنيف يجب على الأطراف المتحاربة احترام (ممنوعات الهجوم)، والتي أولها استخدام المجاعة كوسيلة للقتل ولإضرار المدنيين. وهناك عقوبات تشمل اتخاذ إجراءات قانونية مثل المحاكمة أمام (المحكمة الجنائية الدولية).

تعتبر محاكمة (نورمبيرغ) من أشهر المحاكمات التي جرت ضد جرائم الحرب والإبادة الجماعية. وقد شملت مجموعة من القادة النازيين الذين ارتكبوا جرائم بشعة ضد الإنسانية. ومن بين جرائمهم الأبرز استخدام الجوع كسلاح ضد المدنيين. وهكذا أدى استخدام الجوع في الحروب إلى موت الملايين من الأبرياء. وخلال محاكمة (نورمبيرغ) تم اتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد المتهمين. وقد أدين العديد منهم وحكم عليهم بالإعدام، أو بالسجن المؤبد.

السؤال هل نسي العالم التاريخ؟

في أحدث حروب المجاعة التي نراها يومياً على الشاشات قالت جيرمي بوين في مقالة نشرت على موقع « (بي بي سي» في 28 مارس/ آذار 2024: «إن تقريراً صدر مؤخراً بدعم من الأمم المتحدة بعد شهور من التحذيرات، يؤكد وجود أدلة إحصائية دامغة على الكارثة الإنسانية في غزة، وأنها تحولت إلى مجاعة من صنع البشر».

وقال (فولكر تورك) كبير مسؤولي حقوق الإنسان في الأمم المتحدة: «إن إسرائيل تتحمل مسؤولية كبيرة، وإن هناك حالة مفادها بأن إسرائيل تستخدم المجاعة كسلاح في حربها ضد غزة. وأضاف أن ذلك يعتبر (جريمة حرب)».

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد