في عام 2003، وفي ظل انتفاضة فلسطينية عنيفة، كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحت وطأة حصار داخلي في مقر المقاطعة برام الله، ووطأة ضغط دولي شديد لتغيير منهجية إداراته، فكانت نتائج الضغط رضوخه على مضض بتكليف محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للحكومة الفلسطينية.
التباينات بين الرجلين كانت واسعة، لكن قوة عرفات كانت في شخصيته المؤثرة والمسيطرة في الداخل الفلسطيني، وقد استقال محمود عباس في حينها، وبعد أشهر قليلة، غاضباً ومحتداً، وبقي عرفات رئيساً كامل الصلاحيات حتى غادر الحياة كلّها وسط ملابسات غامضة في مجملها، وجاء من بعده محمود عباس نفسه رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية.
قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية الجديدة لم تستطع أن تخلق لنفسها شخصية مؤثرة في الداخل الفلسطيني، فكان تعزيز السيطرة لديه يعتمد على الدهاء السياسي من جهة، والسيطرة الأمنية من جهة أخرى، مع باب مفتوح للتنسيق الأمني مع إسرائيل، لكن حكومات اليمين الإسرائيلي المتعاقبة لم تتجاوب معه كثيراً.
واليوم، يتعرض أبومازن، وهو في عقده التاسع، لذات الضغط الدولي والإقليمي الذي تعرض له الزعيم ياسر عرفات، لكن في مرحلة أكثر صعوبة ودقة من كل مراحل المشهد الفلسطيني السابقة، منذ توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية كمشروع لدولة فلسطينية لم تكتمل ويبدو أنها لن تكتمل.
واليوم تستقيل حكومة محمد اشتية، رغم أنها لا تختلف مع سياسات رئيس السلطة، وذلك رضوخاً لمطلب إقليمي ودولي بضرورة إحداث تغيير جوهري في قيادة السلطة نفسها، وهذا تعبير مهذب يحمل رسالةً موجهةً لعباس تطالبه بإفساح المجال أمام تغييرات حقيقية مطلوبة بل وضرورية في المرحلة القادمة، استجابة لاستحقاقات لم تعد تحتمل التسويف والمماطلة.. في إطار تغيير جوهري قد يشمل نظام السلطة الوطنية نفسها، من نظام رئاسي مطلق إلى نظام يراعي حاجة الفلسطينيين إلى إدارة حقيقية لشؤونهم، وقيادة سياسية تمثلهم جميعاً في المعركة السياسية مع إسرائيل ذات يوم.
ولعل ذلك يتطلب فك الارتباط الكامل بين قيادة السلطة وقيادة منظمة التحرير، وإعادة ترتيب الأمور في مرحلة ما بعد تداعيات الحرب في غزة وتشكيل حكومة تكنوقراط لا تمثيل فصائلي فيها بالمطلق. أي إقامة إدارة تكنوقراطية تدير شؤون الناس وتأخذ من صلاحيات الرئيس الذي يراعي الجميع تاريخه النضالي كي يكون رمزاً فخرياً على رأس الكيان الفلسطيني الجديد الجامع. وهذا هو الحل الأكثر واقعيةً في وقتنا الحالي.
تغيير الحكومات الفلسطينية لن يغير من واقع الحال الفلسطيني كثيراً، لذا فربما يكون المطلوب لدى بعضهم حالياً هو انتفاضة سياسية شاملة داخل بنية السلطة الفلسطينية نفسها، وداخل ما تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية كذلك، ومن ثم العودة إلى الأصل، أي الشعب الفلسطيني، بقيادات فلسطينية من الداخل الفلسطيني نفسه، تعرف واقع الأمور ومجرياتها وتدرك متطلبات الناس في الضفة الغربية وفي قطاع غزة المدمَّر.